"مذهب السلف بين الحقيقة والدعوى"
الحمد
لله ، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما
بعد، فقد سألني بعض طلبة العلم عن رأيي فيما جرى في المؤتمر الذي انعقد في
الشيشان والذي انتصروا فيه لمذهب الأشاعرة والماتريدية والصوفية، وزعموا أنه مذهب
أهل السنة والجماعة.
وقد
سبقني بعض أهل العلم ممن ينصر مذهب السلف إلى الرد على بعض ما قاله المؤتمرون،
وفنّدوا بعض شبهاتهم، فجزاهم الله خيراً ورفع قدرهم لما نصروا فيه من الحق، ولهم
الفضل بذلك السبق.
وما
يزعمه بعض المشايخ اليوم من انتساب الأشاعرة والماتريدية والصوفية إلى مذهب السلف
وإلى أهل السنة والجماعة، دعوى قديمة، لها أكثر من ألف سنة.
وكتب
الأشاعرة وغيرهم طافحة بتقرير تلك الدعوى، بل إنهم تمادوا أبعد من ذلك، فزعموا
أنهم أحق بهذه النسبة من غيرهم من أهل السنة الذين نصروا كلام السلف بحق، ولم
يحيدوا عنه قِيدَ أنملة.
ولأن
الكلام في مثل هذه المسائل الشائكة يطول، فسأجعل المقال في أربعة أجزاء.
( الجزء الأول
) :
ما
زعمه رؤوس المؤتمر - كشيخ الأزهر - من تأكيد لتلك الدعوى التي سطرها من قبل،
أسلافهم من المبتدعة، من دخول الأشاعرة وغيرهم من الفرق المذكورة، في مذهب أهل
السنة والجماعة، بمعية أهل الحديث.. دعوى لا تستند إلى دليل، بل إن قائلها إن
كان عالماً حقاً بمقالات الأشاعرة، فإنه يعلم أنه كاذب فيما ادعاه.
وإلا
فهو جاهل، يهرف بما لا يعرف.
لأن
الفرق بين مذهب الأشاعرة ومذهب أهل الحديث، أبعد مما بين الخافقين.
ولم
تزل بينهم الخصومة والعداوة، عبر القرون، وإلى يومنا هذا !
ومصنفات
الأشاعرة، القديمة والحديثة، تشهد على ذلك، غير أنهم يلبّسون على الأمة،
فيزعمون أنهم موافقون لمذهب الصحابة والأئمة، ويلمزون مخالفيهم من السلفيين
بألقاب، كالحشوية، والمجسمة، والنابتة، وغيرها.
بل
صرّحوا بتكفيرهم، كما سيأتي توضيحه بعد.
وأما
ما خلص إليه المؤتمرون، وأذاعوه، في بيانهم الختامي، من إخراج أهل الحديث من
مذهب أهل السنة والجماعة، فإنما هو وصمة عار عليهم، وفضيحة لهم على رؤوس الأشهاد.
وما
ظنوه - وراموه - من انتصارهم بمثل هذا العبث لأهل الفرق المحدثة، على مخالفيهم من
أصحاب المذهب الحق، قد عاد عليهم بالخزي والوبال.
وليسوا
بِدْعاً من أسلافهم المخالفين، ممن قَصَر لقب السنة والجماعة على فرق مبتدعة، لم
تنشأ إلا بعد المائة الثالثة للهجرة.
فهل
كان السلف السابقين، من الصحابة والتابعين، والأئمة الماضين، خارجين عن مذهب السنة والجماعة؟
فإن
قالوا: لا ، بل كان السلف على مذهب السنة والجماعة.
قلنا: فعلامَ إذاً الانتساب إلى الأشعري والماتريدي، والأول متوفى سنة 324 هـ،
والآخر متوفى سنة 333 هـ؟
ولماذا
لم تختاروا علماً من الأعلام السابقين، فتنتسبوا إليه ؟
ولو
فرض أنكم انتسبتم إلى إمام، فمن تراه يكون الأنسب ؟
ومن
هنا تعلم - أخي القارئ - أن مذهب أهل الحديث، أو المذهب السلفي، هو وحده الذي
يستحق أن ينسب إلى السنة والجماعة، بخلاف سائر الفرق المبتدعة.
فالنسبة
إلى السنة، لا تعني إلا سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
والجماعة، هم الصحابة الذين اجتمعوا على السنة والحق، ومن تبعهم بإحسان.
ولهذا
لا تجد في عصر من العصور السالفة من يرضى من السلفيين، أن ينتسب في الاعتقاد إلى
صحابي أو تابعي أو إمام.
بل
الانتساب إلى الجميع، أي: الجماعة، الذين اجتمعوا على السنة.
وأما
النسبة إلى أهل الحديث، فهي بمعنى النسبة إلى السنة والسلف، وهي الجماعة التي
دانت بالسنة والحديث.
ثم
يقال أيضاً: إن الانتساب في الاعتقاد إلى فرقة محدثة، كالأشعرية وغيرها، يخرج
كل عوام الأمة، من الأميّين وغيرهم، من ذلك المذهب الذي تزعمون أنه الحق وحده.
لأن
أولئك العوام، وهم أكثر الأمة، لا قدرة لهم على فهم مذهب الأشعري وطلاسمه
وألغازه.
بينما
نحن نقول: إن مذهب السنة والجماعة يستوعب كل من دان بالإسلام، حتى الأعرابي الذي
في البادية، والعجوز التي في البيت، وحتى من دخل في الإسلام الآن، فهو عندنا من
أهل السنة والجماعة.
مالم
يتلبس المسلم ببدعة، ويعلنها، فحينئذٍ يكون هو الذي رضي أن يخرج من هذا المذهب
ويتقلّد غيره.
وسيأتي
الكلام على مذهب الأشاعرة وغيرهم في الجزء الرابع من هذا المقال - إن شاء الله.
"منابر
الضرار"
الحملة
الشعواء، في هذا الزمان، من قبل الخلوف، على دعاة الحق، قادها الأزهر في مناهج
التعليم من قديم، وكم أضرّ أفراخهم وعبثوا بعقائد العوام في مصر وغيرها من البلاد
التي ابْتُعِثوا إليها أساتذة وخطباء ووعاظاً، إلا من رحم الله.
وكم
أفسدوا مناهج تعليمية، أشرفوا على
تأسيسها، ومنابر للخطابة والوعظ، حيث نشروا منها مقالات وعقائد الفرق المخالفة،
وعلى رأسها الأشعرية في الصفات والقدر، والصوفية في السلوك الخرافي، كعبادة
الأضرحة والقبور.
ولم
يكتفوا بنشر تلك العقائد الباطلة، بل زادوا عليها بالطعن والثلب ونشر الأكاذيب عن
المذهب السلفي، الذي حصروه في بلاد الحرمين، تقليلاً من شأنه، وتدليساً على
الناس، كما أطلقوا عليه لقب "الوهابية"، تنفيراً عنه، وعزلاً له عن
مذاهب الإسلام.
وزعموا
أن "الوهابية" وراء كل جرائم القتل والتفجير التي اقترفتها الجماعات
الإسلامية في العالم أجمع !
قلت: والواقع هو عكس ما زعموه، وأكبر شاهد عليه، أن منهج التكفير لعوام المسلمين في
هذا العصر إنما تزعمته فرق سياسية خرجت من مصر وغيرها، وأشهرها جماعة الإخوان
المسلمين، وجماعة المودودي في باكستان.
ومعلوم
أن رؤوس كلتا الجماعتين، لا علاقة لهم بالوهابية، ولا ببلاد الحرمين !
وكل
الفرق التي انشقت عن هاتين، خاصةً الإخوان المسلمين، وانتشرت في كل بلاد الإسلام
شرقيها وغربيها، تتبنى أصول الجماعة الأم، وإن زعمت أنها تخالفها.
وسؤال
نطرحه: إلى أي مذهب كان ينتسب المؤسس الأول حسن البنا ؟
ألم
يكن، في السلوك والمشرب، من أتباع الطريقة الصوفية "الحصافية" ؟
ومذهبه
في الاعتقاد ألم يكن أشعرياً يتأرجح بين التأويل والتفويض ؟
ولئن
جبن المؤسس الأول لجماعة الإخوان عن التصريح بالغلو في تكفير مخالفيه، فإن المؤسس
الثاني (سيد قطب) قد كشف اللثام عن الحقيقة، وصاح بها علانية في مصنفاته (الظلال) و (المعالم) !
وقد
تأثر هذا القطب كثيراً بكتب المودودي، وظهر هذا التأثير جلياً في أسلوبه وفكره.
وأما
عن القتل الجزاف لمخالفيهم، واستحلال دمائهم، فلم يصبر على إخفائه المؤسس الأول، فقد أسس جهازاً سرّياً، لتصفية مخالفيه غِيلةً، كما حصل للخزندار وغيره.
وأما
المؤسس الثاني، فعنه ظهرت جماعات الغلو في التكفير واستحلال القتل، وقد اعترف
بعض كبارها أنهم تلقوا الفكر والمذهب عن كتب القطب !
بل
قد أخذ بعضهم هذه اللوثة مباشرةً من سيدهم في المعتقل، كما رواه بعضهم.
ومن
مشاهير أولئك الخوارج: علي إسماعيل، وهو أزهري، وكان معتقلاً في فتنة الإخوان،
وكان أخوه عبد الفتاح، ممن أعدِمَ مع سيد قطب.
ثم
أخذ الراية شكري مصطفى، الذي تزعّم
الجماعة، وعنه انتشر هذا الفكر في مصر، ثم صُدّر إلى الجزيرة والشام
وغيرها.
وتفصيل
الكلام على تلك الأحداث يخرجنا عن المطلوب.
والحاصل: أن الغلو في التكفير، واستحلال الدماء المعصومة، إنما خرج من عباءة مصر
وباكستان لا من بلاد الحرمين.
ومؤسسوا
فكر "القاعدة" هم من جماعة الإخوان (الأم) ومن أتباع جماعة التكفير
والهجرة (البنت)، كما صرّح بهذا بعض من تراجعوا عنه، ثم تبرأوا منه.
ومعلوم
أن الدكتور عبدالله عزام كان إخوانياً أزهرياً، وكان من منظري الجهاد الأفغاني (العربي) ضد الروس، وعنه تأثر
الشيخ أسامة بن لادن وكتائب المجاهدين من مصر والشام والخليج العربي وغيرها.
" لا
تقعدوا معهم "
دعي
إلى مؤتمر الضرار الشيشاني نحو مائتي شيخ من المنتسبين إلى العلم والدعوة من بلاد
مختلفة، تم اختيارهم بعناية، وهم في الحقيقة مختلفون، وإنما يجمعهم مذهب واحد:
المخالفة
والعداوة للمذهب السلفي، مذهب أهل السنة والجماعة، الذين هم أحق الأمة بهذه
النسبة، وعلى رأسهم علماء بلاد الحرمين.
فاستنكر
كثيرون مثل ذلك الإقصاء المتعمد، وعجّت الأصوات في الفضائيات من هنا وهناك، كلهم
ينتقد ويتساءل: لماذا كان هذا الإقصاء ؟
ولمَ
خلا نص البيان الختامي من ذكر أهل الحديث (السلفيين) مع الآخرين ؟
قلت: لكني لم أتأسف ولم أستنكر مثل ذلك العمل، بل إني أرى أن هذه هي الحسنة الوحيدة
(إن كان ثم حسنة) في ذلك المؤتمر!
أس
القضية، ومحور الاجتماع لتلك المؤامرة، هو التعريف بمن يدخل في عقد أهل السنة
والجماعة، ويستحق ذلك اللقب؟
فإذ
قد جمعوا أقطاب التصوف ورؤوس الأشاعرة والماتريدية، فقد نادوا على الملأ: أن لا
مكان لأهل السنة المحضة، أتباع السلف، في مثل ذلك الجمع المشبوه!
لأنه
لا يصلح الجمع بين النقيضين، بين الحق والباطل، في موطن يقرّر فيه صحة المذهبين
معاً !
كما
لا يصلح الخلط بين السنة والبدعة، والهدى والضلالة، بل يجب التمايز والتفريق بينهما.
وحينئذ
نقول لإخواننا السلفيين: لا تحزنوا فليس هذا مكانكم، ولو دعيتم إلى مثله {فلا
تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم}.
قال
الإمام الطبري في تفسيره "وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على النهي عن
مجالسة أهل الباطل من كل نوع، من المبتدعة والفسقة، عند خوضهم في باطلهم".
اهـ.
وقال
تعالى {إن الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء}.
ذكر
الإمام الطبري في تفسيره من الأقوال: أن هذه الآية نزلت في أهل البدع والضلالة
والشبهات من هذه الأمة.
"موقف
السلف من الفرق "
لقد
وقف أسلافنا من الصحابة والتابعين والأئمة المهديين عبر القرون الماضية، من
المخالفين من الفرق التي خرجت عن جادة السنة وفارقت الجماعة، من الخوارج والرافضة
والقدرية والمرجئة وأفراخهم، موقف المفاصلة والمباعدة التامة، وصرّحوا بالبراءة
منهم، وكانوا ينهون عن مجالستهم ومخالطتهم، والآثار في بيان ذلك أكثر من أن تحصر.
وكلما
نشأت فرقة، قام من أئمة السلف من يدحرها بالحجة والبيان، قرناً بعد قرن، حتى
يومنا هذا.
وصنفت
في ذلك مئات -بل ألوف- الكتب والرسائل، في تقرير عقيدة السلف -أهل السنة
والجماعة- والرد على الفرق المخالفة.
ولقد
شدد أئمة المذهب السلفي النكير على كل من ابتدع في الدين مذهباً أو سلوكاً مخالفاً
للسنة، من أول يوم نبتت فيه نابتة
السوء، من الخوارج والشيعة.
فقام
خليفة المسلمين علي بن أبي طالب وابن عباس بواجب النصح والبيان والرد على شبهاتهم.
1
- ومن ذلك خطبة علي المشهورة في الرد على المفضّلة من الشيعة "لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر
إلا جلدته حَدّ المفتري".
2
- وعمد إلى غلاتهم فحَرّقهم في النار. [رواه البخاري].
3
- وأرسل ابن عمه عبدالله بن عباس إلى جمع من الخوارج فناظرهم، وكانوا أربعة آلاف،
فرجع منهم نحو ألفين.
4
- وتبرّأ ابن عمر من معبد الجهني وأتباعه القدرية، وردّ عليهم بحديث جبريل
المشهور.
ونشأت
المرجئة، أتباع الحسن بن محمد بن الحنفية (كما قيل).
والجهمية، أتباع الجهم بن صفوان.
والمعتزلة، أتباع واصل بن عطاء، في زمن التابعين، فشنّع عليهم أئمة السلف مقالتهم.
وكالعادة
في كل البدع والمحدثات، كلما طال عليها الزمان وبعُدَ عليها العهد، كلما كبُرَتْ
وتفرعتْ وابتعدت عن السنة ومنهج الحق.
( الجزء الثاني
) ..
ثم
جاء عصر التابعين، فقام الأئمة بواجب البيان والرد على البدع السابق ذكرها:
فرد
الحسن البصري على واصل بن عطاء، رأس المعتزلة، وأبعده من مجلسه، وقال: اعتزلنا
يا واصل.
ومنه
سميت فرقته بالمعتزلة (كما قيل).
ورد
جمع من التابعين (عطاء بن أبي رباح ونافع وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وميمون بن
مهران وغيرهم) على رؤوس المرجئة.
وأما
الجعد بن درهم، شيخ الجهم، فقد ضحّى به الأمير خالد القسري.
وقُتِل
الجهم بعد ذلك أيضاً.
ثم
جاء عصر أتباع التابعين، وكانت الفرق الست السابق ذكرها: الخوارج والرافضة
والقدرية والمرجئة والجهمية والمعتزلة قد تشعبت وتفرقت..
1
- ففرق المعتزلة، إنما كان أصل مقالتهم في حكم مرتكب الكبيرة.
حيث
رأوا أن مذهب الخوارج أقعد من مذهب السلف.
فالخوارج
ُيخرجون مرتكب الكبيرة من الملة، ويرون أنه مخلد في الآخرة في النار.
ومذهب
السلف: أن مرتكب الكبيرة، فاسق عاص، وهو في الآخرة تحت المشيئة، إن شاء الله
عذبه، وإن شاء غفر له، ولا يخلد في النار.
والمعتزلة
قالوا مثل قول الخوارج في حكم الآخرة لكنه في الدنيا يكون في منزلة بين المنزلتين، خرج من الإيمان، ولم يدخل في الكفر.
وأخذت
المعتزلة في القدر بقول القدرية، ومن أقوالهم: إن الله لم يخلق أفعال العباد ولم
يشأها منهم.
وأنه
سبحانه لا يقدر أن يمنع الكافر من كفره ولا العاصي من معصيته.
ومن
المعتزلة من نفى علم الله بالجزئيات ...
وهذا
مختصر لبعض كلامهم في القدر، والمقام لا يتسع للتفصيل.
2
- وقابلتهم الجهمية، وهم أتباع جهم بن صفوان الذي أخذ مقالته عن الجعد بن درهم.
تقول
الجهمية: إن العبد مجبور على الفعل، لا إرادة له ولا اختيار.
ومذهب
السلف أهل السنة والجماعة: أن الله سبحانه خلق الخلق وخلق أفعالهم، وأنه ما شاء
كان، ومالم يشأ لم يكن.
والخير
والشر والطاعة والمعصية، كلها بقدر الله وإرادته ومشيئته، لكن العبد هو الفاعل
حقيقة لفعله، وأن له مشيئة وإرادة
واختياراً.
لكن
مشيئة الله فوق مشيئة العبد.
ويقفون
عند هذا الحد، لأن الخوض في تفصيل مسألة القدر قد يفضي إلى الحيرة أو الشك، فإن
العقول لا تدرك غوره، وقد جاء في الحديث "وإذا ذُكِرَ القدر فأمسكوا".
فأنت
ترى أن مذهب المعتزلة ومذهب الجهمية على طرفي نقيض.
ومذهب
أهل السنة والحق، وسط بينهما، كما أنه وسط بين جميع الفرق المخالفة {من بين فرث
ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين}.
"البدع في
الصفات"
وللجهمية
بدع شنيعة، خاصةً في الصفات، وقد كان بينهم وبين المعتزلة خلاف كبير.
وقد
أنكرت الجهمية الأسماء والصفات، وكذبت صريح آيات القرآن والأحاديث.
وأما
المعتزلة، فقد أثبتت الأسماء وأنكرت الصفات.
وبعضهم
أقر بأربع صفات فقط: الحياة والقدرة والعلم والوجود.
لكنهم
لا يثبتونها على المعنى الصحيح لها.
وقد
تصدى الأئمة للرد عليهم:
كمالك
والأوزاعي وابن المبارك وسفيان الثوري وابن عيينة والليث بن سعد وحماد بن زيد وابن
سلمة، وأضرابهم من أئمة الحديث، الذين اتفقت الأمة على إمامتهم في الدين (في
الحديث والاعتقاد والفقه والتفسير).
وتبعهم
أئمة آخرون، حملوا راية الذب عن مذهب السلف:
كالشافعي
وابن مهدي وأحمد ووكيع وإسحق وابن معين وابن المديني، وغيرهم من المشاهير.
وكلامهم مروي بالأسانيد الصحيحة في مصنفات الاعتقاد، التي سميت بـــ "السنة"، أو"الرد على الجهمية" .
"مذهب
الكلابية المختلط"
ثم
ظهرت فرق تأثرت بالمعتزلة والجهمية وغيرها، وسمعت بعض مقالات أئمة السلف،
فابتدعت عقائد مختلطة من مذاهب هؤلاء وأولئك، وكان من أشهرهم "الكلابية" أتباع عبد الله بن سعيد بن كُلّاب، المتوفى سنة 240 هـ .
وقد
شنّع الأئمة - أحمد وغيره - على ابن كلاب وأصحابه وبدّعوا مقالاتهم، المخالفة
لمذهب السلف.
وجاء
بعد ابن كُلّاب تلامذته، فنصروا مذهبه المختلط.
وعن
هؤلاء أسس الأشعري مذهبه، ومثله الماتريدي.
"المصنّفات
السلفية في الاعتقاد "
ذكرنا
إنكار الأئمة من بعد التابعين على مقالات الفرق الست وما تفرع عنها، كالكلابية.
وقد
أُفرِدت، في زمن الإمام أحمد، مصنفات الاعتقاد في تقرير مذهب السنة، والرد على
المخالفين، ومنها:
1
- الإيمان، لأبي عُبيد . (ت 224) .
2
- الإيمان، لابن أبي شيبة . (ت 235) .
3
- الحَيْدة، للكِناني . (ت 240) .
4
- الرد على الزنادقة والجهمية لأحمد . (ت 241) .
ومن
الأئمة من خصّص أبواباً من كتب الحديث في الرد على الفرق، بالأحاديث والآثار:
كالبخاري ومسلم وأبي داود، وغيرهم.
فصحيح
البخاري، مثلاً، فيه كتب وأبواب، ضمّنها الرد على بعض مقالات الفرق، وساق في
مقدمتها تراجم وآثاراً معلقة، زيادةً وشرحاً للمطلوب.
فردّ
على المرجئة في كتاب الإيمان، وعلى القدرية في كتاب القدر، وعلى الخوارج في كتاب
الفتن، وعلى الرافضة في كتاب الأحكام، وكتاب فضائل الصحابة.
ثم
رد على الجهمية في آخر صحيحه، في كتاب التوحيد.
ولخّص
ذلك كله في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة.
ومن
المصنفات المشهورة المفردة في الاعتقاد:
1-
خلق أفعال العباد للبخاري 256 هـ.
2-
الرد على بشر المريسي لعثمان الدارمي 280 هـ.
3
- الرد على الجهمية لعثمان الدارمي 280 هـ.
4-
السنة للإمام عبدالله بن الإمام أحمد 290 هـ.
5-
التوحيد لابن خزيمة 311 هـ.
6-
السنة للخلال 311 هـ.
7-
الشريعة للآجرّي 360 هـ.
8-
السنة للطبراني 360 هـ.
9-
الصفات للدارقطني 385 هـ.
10-
النزول للدارقطني 385 هـ.
11
- الإبانة للعكبري 387 هـ.
12
- السنة للالكائي 418 هـ.
وغيرها
من عشرات المصنفات.
وكلهم
يسوق الروايات المرفوعة والموقوفة بالأسانيد المتصلة، لتقرير عقيدة السلف التي
تؤخذ من نصوص القرآن والسنة، في إثبات
الأسماء والصفات والقدر، وغيرها من مسائل الإيمان، التي ضل فيها المخالفون،
فأنكروها، أو حرّفوها عن معانيها.
وربما
اضطُرّ أئمة السلف إلى شرح نصوص الاعتقاد، التي حرّف المخالفون معانيها.
وإلا
فالأصل، عند السلف، أن يُقتصر على رواية النصوص، وإمرارها كما جاءت، والإيمان
بها.
فتلاوة
نصوص العقائد، إثبات لها على المعنى الظاهر، المستعمل في اللسان العربي، بحسب
الإفراد والتركيب.
ولو
كان لها معنىً، يخالف الظاهر، لوجب بيانه وتوضيحه، لأن (تأخير البيان عن وقت
الحاجة لا يجوز) .
وقول
أئمة السلف، في إمرار النصوص كما جاءت، لا يعني جهلهم بمعناها، كما يزعمه
المضلّون من أئمة الفرق، فيجعلون السلف أميّين {لا يعلمون الكتاب إلا أمانيّ} .
والجهل
بالمعاني، يطلق عليه في مصطلح الأشاعرة وغيرهم من المتكلمين (التفويض) ،
ويجعلونه قسيم التأويل.
ويزعمون
أنه مذهب السلف في الصفات.
فالسلف
عندهم مفوّضة، لا معنى يفهمونه من نصوص الصفات، فالاستواء والمجيء والرضا والغضب
والمحبة، لا معنى لها يفهم.
وكذا
الوجه، والعين، واليد، واليمين، والساق.
والمذهب الذي يطلق عليه (التفويض)، ويقصد به تفويض المعنى، شرٌّ من مذهب (التأويل)، وقد تذبذب الأشاعرة بين
المذهبين.
فإذا
أرادوا نصرة مذهب الخلف، اختاروا التأويل.
وإن
زعموا نصرة مذهب السلف، تقلّدوا التفويض.
والسلف
بُرءاء من هذا المذهب المخترع.
فإن
كل عاقل، يعلم بالاضطرار، أن صفة الرضا، ليست بمعنى صفة السخط.
واليد، ليست كالعين .
والاستواء، ليس كالمجيء .
فالتفويض
يقتضي اتحاد الألفاظ، لأنها كلها لا يُفهم منها معنىً !
وهذه
الدعوى ظاهرة البطلان، فإن نصوص الصفات، في القرآن والسنة والآثار، التي تُعَدّ
بالألوف، لا يعقل أن يُظن بأنها كانت مجهولة المعنى عند أفصح الناس وأعلمهم، بعد
رسول الله صلى الله عليه وسلم، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
كما
لا يعقل أن يخاطب الله عباده بكلام مطلسم ويكرره
عليهم مئات المرات ، وليس وراءه معنى يُفهم !
كيف
وقد سماه {الكتاب المبين}، وجعله هدى، وشفاءً، ورحمةً للعالمين، وحَكَماً بين
المتنازعين ؟
{بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتو العلم} .
ثم
كيف يُظن برسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كان يتلو عليهم تلكم الآيات، وهم
لا يعلمون معناها، ثم لا يشرحها لهم ولا يبينها لهم؟
أم
يقال إنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجهل معناها مثلهم ؟
حاشاه
من ذلك .. وحاشاهم .
وقد
أخبرهم صلى الله عليه وسلم من نصوص الاعتقاد
مثل ما جاء في القرآن وأكثر ، ولم يشرح لهم من معناها إلا ما دعت الحاجة إليه مما
أشكل عليهم فهمه.
فسأله
بعضهم عن القدر، ولما أخبرهم بأنه قد سبق الكتاب على الشقي والسعيد، من قبل
الخلق، سألوه: فَفِيمَ العمل؟
فقال
"اعملوا فكلٌ ميسّر لما خلق له" .
ولما
اشكل على عائشة حَشْر الناس عراةً، فقالت: الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟
أجابها
بأن الأمر أعظم من أن ينظر بعضهم إلى بعض.
وسأله
سائل، كيف يُحشر الكافر على وجهه ؟
قال
"أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا، قادراً على أن يمشيه على وجهه في الآخرة"؟
والمقصود: أن الصحابة ومن تبعهم من الأئمة كانوا أعلم الخلق بمعاني النصوص، في الصفات
والقدر والإيمان والغيب، لا كما يزعمه المبطلون.
( الجزء الثالث
)
"علم
الكلام "
قلنا
من قبل : إن أئمة السلف ، من الصحابة ومن تبعهم بإحسان ، كان مذهبهم في الصفات
والقدر والغيب ، وغيرها من مسائل الاعتقاد ، إمرار النصوص كما جاءت ، والإيمان
بها، والجزم بأنهم كانوا يعلمون معانيها .
وما
أشكل عليهم منها - وهو يسير - كانوا يستوضحون معناه من رسول الله صلى الله عليه
وسلم .
ولم
يكونوا بحاجة إلى منطق اليونان ليفهموا به نصوص الوحي المبين .
وإنما
ضل من جاء بعدهم من رؤوس الفرق ، بخوضهم في تحريف النصوص وتأويلها على قواعد
المنطق وأسس الفلسفة .
فنصوص
القرآن والسنة - خاصةً في الغيبيات -واضحة المعنى لمن يفهم اللسان العربي الفصيح
فهماً عاماً ، ولو كان أميّاً .
وكلما
ورد منها نص ، ازداد به المؤمن إيماناً ويقيناً .
{
وإذا ما أنزلت سورة ، فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا
فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم
وماتوا وهم كافرون } .
وقد
ذكرنا من قبل، ونكرر هنا، بأنه لا يُظنّ بالله الحكيم الخبير، أن ينزل على خير
الأمم وحياً من السماء يخبرهم فيه بأكثر
من ألف آية، من الصفات والغيبيات، عن أسمائه وصفاته وأفعاله، وصفات ملائكته
وجنته وناره، ويصف كلامه بأنه مبين، وأنه شفاء لما في الصدور.
وهو
تعالى يعلم أن في الأمة شيوخاً وعجائزَ وأعراباً ورعاةً وصُنّاعاً أمّيّين، فلم
يكن سبحانه ليخاطبهم، بما لا يمكن لهم فهمه، إلا بتحصيل علوم كثيرة، لا يمكن
لأكثر الأمة تحصيلها.
فكيف
إذا كانت تلك العلوم أعجمية ؟
وكيف
إذا كانت تستغلق على أكثر المتكلمين بذلك اللسان الأعجمي؟
وكيف
إذا تبين، بأن تلك العلوم متناقضة، وأنها "لا تشفي عليلاً، ولا تروي
غليلاً"، كما وصفها من خَبَرها، ثم ندم بعد حين؟
فعلم
"المنطق"، الذي اخترعه بعض اليونان، أكثره جدل لا فائدة فيه،
"لا يحتاجه الذكي، ولا يستفيد منه الغبي".
ولكن
رؤوس الفرق المنتسبة للإسلام جعلوا هذا المنطق اليوناني هو الأصل الذي يحكم به على
نصوص الوحي الغيبية، إثباتاً ونفياً.
ويقال
إن سبب تسميته "علم الكلام" ، لأن أول مسألة تناظر فيها المتكلمون،
صفة الكلام لله عز وجل، فخلطوا فيها خلطاً عجيباً.
وكل
من انتسب إلى المعتزلة والجهمية والأشعرية ممن تصدى للمناظرة والجدل والتأليف،
حتى عصرنا الحاضر، لا ينفك عن الاستدلال بأصول وقواعد علم الكلام.
وقد
شانوا كثيراً من مصنفات أصول الفقه، والمصطلح،
والتفسير، وشروح الأحاديث، بذكر
مباحث وعبارات ذلك العلم الدخيل على الأمة الإسلامية.
ومما
يدلك على فساد هذا العلم، كثرة الخلاف والتباين بين فرق المتكلمين، في مسائل
الدين.
فلو
كان علماً منضبطاً، يصلح أن يُتحاكم إليه، لما حصل مثل ذلك الخلاف الكبير بينهم.
حتى
إنك لتجد الفرقة الواحدة تنقسم فرقاً كثيرة متناحرة، وكلٌ يستدل بقواعد علم
الكلام !
"موقف
السلف من علم الكلام"
وأما
أتباع المذهب السلفي، فإنهم لم يلتفتوا إلى ذلك العلم، يقيناً منهم بأن الله
تعالى لم يكن لينزل كلاماً عربياً، على رسوله الأميّ، وأمته الأميّة، ليهتدوا
به من ظلمات الضلال والجهل، إلى نور الحق والعدل، ثم يكلفهم بتعلم المنطق
اليوناني، ليقيموا به الدلائل على وجوده، وعلى وحدانيته، وعلى حدوث الخلق بعد
العدم، وعلى صحة النبوة .. الخ .
ولهذا
اشتدّ النكير من علماء السلف على أهل الكلام، وبدّعوا من نظر فيه، صيانةً للدين، وحراسةً لنصوص الوحي من أن يعبث بها أهل الكلام، ورحمةً للأمة من أن تزيغ عن
الهدى والحق.
قال
الشافعي "حكمي في أهل الكلام، أن يُضربوا بالجريد، ويُطاف بهم في العشائر، ينادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام" .[ السير
للذهبي ] .
وقال
الشافعي أيضاً "ما جهل الناس ولا اختلفوا، إلا لتركهم لسان العرب، وميلهم إلى
لسان ارسطا طاليس".
[صون المنطق للسيوطي].
وقال
أبو يوسف القاضي " العلم بالكلام جهل . ومن
طلب العلم به تزندق" . [أخبار القضاة لابن خلف].
وقال
ابن خويز منداد "أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا، هم أهل الكلام، فكل
متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع، أشعرياً كان أو غير أشعري، ولا تُقبل له شهادة
في الإسلام أبداً، ويُهجر ويُؤدب على بدعته، فإن تمادى عليها، استُتِيب منها" . [جامع بيان العلم لابن عبد البر] .
وقال
الغزالي "وينبغي أن يحرس سمعه من الجدل والكلام غاية الحراسة، فإن ما يشوشه
الجدل أكثر مما يمهده، وما يفسده أكثر مما يصلحه ..
فَقِسْ
عقيدة أهل الصلاح والتقى من عوام الناس بعقيدة المتكلمين والمجادلين.
فترى
اعتقاد العامّيّ في الثبات، كالطود الشامخ.. ، وعقيدة المتكلم كخَيط مرسل في
الهواء، تُفيئه الرياح مرة هكذا ومرة هكذا ..".
ثم
ذكر الغزالي أن الشافعي ومالكاً وأحمد وسفيان وجميع أهل الحديث من السلف، قالوا
ببدعية هذا العلم وتحريمه.
ثم
قال "وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا، ولا ينحصر ما نُقل عنهم من
التشديدات فيه".
إلى
أن قال الغزالي "وهذا إذا سمعتَه من محدث أو حَشَوي، ربما خطر ببالك أن
الناس أعداء ما جهلوا.
فاسمع
هذا من ممن خَبَر الكلام، ثم قَلَاه، بعد حقيقة الخبرة، وبعد التغلغل فيه، إلى
منتهى درجة المتكلمين .. " الخ.
انتهى
باختصار . [ الإحياء ] .
وقال
الرازي "لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تَشفي
عليلاً، ولا تَروي غليلاً.
ورأيت
أقرب الطرق: طريقة القرآن.
أقرأ
في الإثبات {الرحمن على العرش استوى} و{إليه يصعد الكلم الطيب}، وأقرأ في
النفي {ليس كمثله شيء} {ولا يحيطون به علماً}.
ومن
جَرّب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي " . [ السير للذهبي ] .
وقال
أبو المعالي الجويني " ا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام
يبلغ بي ما بلغ، ما اشتغلت به".
[السير للذهبي].
وألّف
الشهرستاني كتابه ( نهاية الإقدام في علم الكلام ) ، وذمّه وحَذّر منه ، وقال في
أول كتابه:
لعمري لقد طفت
المعاهد كلها وسَيّرت طرفي
بين تلك المعالم
فلم أرَ إلا
واضعاً كَفّ حائر على
ذَقِنٍ أو قارعاً سن نادم
ونقل
ابن حجر في الفتح في شرح كتاب التوحيد كلام القرطبي صاحب المفهم عن المتكلمين
"أنهم أعرضوا عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه
وسلم، وسلف أمته، إلى طرق مبتدعة، واصطلاحات مخترعة، وقوانين جدلية، مدار
أكثرها على آراء سوفسطائية.
وأخذوا
فيما أمسك عنه السلف الصالح من كيفيات تعلقات صفات الله تعالى، وهل هي الذات، أو
غيرها ؟
وفي
الكلام، هل هو متّحد، أو منقسم ؟
إلى
غير ذلك مما ابتدعوه، مما لم يأمر به الشارع، وسكت عنه الصحابة، ومن سلك سبيلهم
..
ويكفي
في الردع عن الخوض في طرق المتكلمين ما
ثبت عن الأئمة المتقدمين، كعمر بن عبد العزيز، ومالك بن أنس، والشافعي، وقد
قطع بعض الأئمة، بأن الصحابة لم يخوضوا في: الجوهر، والعَرَض، وما يتعلق بذلك، من مباحث المتكلمين.
فمن
رغب عن طريقهم ، فكفاه ضلالاً.
وأفضى
الكلام بكثير من أهله، إلى الشكّ، وبعضهم إلى الإلحاد.
وقد
رجع كثير من أئمتهم عن طريقهم، حتى جاء عن إمام الحرمين، أنه قال:
ركبت
البحر الأعظم، وغُصت في كل شيء نهى عنه أهل العلم في طلب الحق، فراراً من
التقليد، والآن فقد رجعت واعتقدت مذهب السلف" . انتهى من الفتح ملخصاً [ 13
/ 350 ].
قال
سمير:
ولولا ضيق المقام لنقلت صفحات أخرى من كلام أئمة السلف في ذم علم الكلام.
وقد
ذمه أيضاً بعض كبار الأشاعرة، كما رأيت، وأعلنوا توبتهم منه: كالجويني،
والرازي، والغزالي، والشهرستاني.
وقد
نقل توبتهم من كان على نفس طريقتهم، أو تأثر بهم، كابن حجر والقرطبي.
وقد
اتفقت مقالاتهم على أن الصحابة وأئمة الحديث والسلف، مجمعون على تحريم الكلام
ومنع الاشتغال به وتبديع أصحابه، ولم ينقل عن واحد من السلف خلاف في ذلك.
"وقفة مع
الشيخ الددو"
ومن
هنا تعلم أن ما زعمه الشيخ الددو، في لقاء
فضائي، عن الإمام أحمد والسلف، من أنهم اشتغلوا بعلم الكلام، كذب بواح، ينادي
على قائله بالجهل الفاضح، وإن تزيّا بزي العلماء.
ولا
أعلم أحداً ممن ينتسب للعلم، سبقه إلى هذه المقالة، بل كتب الفرق الكلامية مطبقة
على أن السلف لم يشتغلوا بعلم الكلام ألبتة، وأنهم حرّموه وبدّعوه.
وليست
هذه هي الفرية الوحيدة، التي وردت على لسانه، في ذاك اللقاء، بل أكثر ما قاله
وجزم به، كلام مرسل، ومحض افتراء، وخلط للحقائق، وتكذيب للوقائع، وتلبيس على
العوام، الذين اغترّوا بسعة حفظه واستحضاره للنصوص، فأعماهم عن التثبت من حاله
ومقاله، فقابلوه بالتسليم والاستسلام !
وأصمّهم
عن سماع ما ذكره النقّاد فيه، وقد قيل في المثل: حبك الشيء يُعمي و يُصِم.
والمقصود: أن يقال: إنه لو لم يكن بين الفريقين (السلف) و (المخالفين) خلاف، إلا في
النظر والاشتغال بعلم الكلام، لكان كافياً في استحالة اتفاقهما واجتماعهما على
مذهب واحد.
ولو
لم يكن ثمة حجة عليهم، إلا تصريح بعض كبارهم، بتحريم الاشتغال بعلم الكلام،
ونقل اتفاق السلف على ذلك، ثم توبة بعض أئمة الأشاعرة منه، لكان كافياً في إثبات
صحة مذهب السلف، دون ما سواه.
وسنذكر
أصلاً آخر، تفرّع عن علم الكلام، يدل على تباين مذهب السلف، ومذهب الأشاعرة،
في الاعتقاد.
" أول
واجب على المكلّف "
تنازع
المتكلمون، ومنهم الأشاعرة، في أول واجب على المكلف، عند البلوغ .
واختلفت
مقالاتهم فيه.
ثم
تنازعوا في حكم من لم يقم بهذا الواجب، هل يكفر أم يفسق ؟
1-
فقيل : أول واجب هو المعرفة . واختاره أبو الحسن الأشعري .
2-
وقيل : النظر . واختاره ابن فورك .
3-
وقيل : جزء من النظر . واختاره الباقلاني .
4-
وقيل : القصد إلى النظر . وهو قول الجويني
.
والنظر
عند الأشاعرة المتكلمين هو : ترتيب أمرين معلومين ، يتوصل بهما إلى المجهول .
كترتيب
المقدمتين " الصغرى" على " الكبرى" ، في قولهم : العالم متغير
. وكل متغير حادث .
فإنه
موصل إلى نتيجة : أن العالم حادث . [ الإرشاد للجويني ] و [ شرح الجوهرة للبيجوري
] .
واختلفوا
في حكم المكلف ، الذي لم يتأتّ له فعل ذلك الواجب.
هل
هو كافر، أم عاص مطلقاً، أم يُفَرّق بين من كانت له أهليّة للنظر ، وبين العاجز
؟
وقد
ذكر ابن حجر هذه المقالات ، وانتقدها في شرح كتاب الإيمان ، وكتاب التوحيد.
ورجّح
مذهب السلف ، في الإعراض عنها ، والاكتفاء بدليل الفطرة.
وذكر
موافقة أبي جعفر السمناني له، مع كونه من رؤوس الأشاعرة، واعترافه بأن هذه
المسألة بقيت في مقالة الأشعري، من مسائل المعتزلة.
ونقل
ابن حجر كلام الغزالي " أسرفت طائفة، فكفّروا عوام المسلمين، وزعموا أن من
لم يعرف العقائد الشرعية، بالأدلة التي حرّروها، فهو كافر . فضيقوا
رحمة الله الواسعة ، وجعلوا الجنة مختصة بشرذمة يسيرة من المتكلمين".
قال
ابن حجر "وذكر نحوه أبو المظفر السمعاني وأطال في الرد على قائله، ونقل عن
أكثر أئمة الفتوى، أنهم قالوا: لا يجوز أن تُكلف العوام اعتقاد الأصول بدلائلها، لأن في ذلك من المشقة أشد من المشقة،
في تعلم الفروع الفقهية".
ثم
نقل ابن حجر كلام القرطبي المتقدم، في ذم علم الكلام، وقوله في آخره" ولو
لم يكن في الكلام إلا مسألتان، هما من مبادئه، لكان حقيقاً بالذم:
إحداهما
: قول بعضهم ، إن أول واجب : الشك .
إذ
هو اللازم عن وجوب النظر ، أو القصد إلى النظر .
ثانيتهما
: قول جماعة منهم، إن من لم يعرف الله ، بالطرق التي رتّبوها ، والأبحاث التي
حرّروها، لم يصح إيمانه!
حتى
لقد أُورِد على بعضهم: أن هذا يلزم منه تكفير أبيك وأسلافك وجيرانك، فقال: لا
تُشنّع علي بكثرة أهل النار".
ثم
قال القرطبي عقبها "القائل بالمسألتين كافر شرعاً، لجعله الشك في الله
واجباً، ومعظم المسلمين كفاراً، حتى يدخل في عموم كلامه السلف الصالح من الصحابة
والتابعين" !
[ فتح الباري 13 / 349 - 350 ] .
قال
سمير:
وأنا تعمدت الإطالة هنا، حتى تظهر الحقيقة للقارئ، ويعلم: من الذي يجازف ويغلو
في تكفير عموم المسلمين، بل ويتعدى إلى تكفير السلف، من الصحابة، والتابعين،
وأئمة الدين، ولا يسلم من هذا الحكم الجائر بالكفر، إلا شرذمة قليلون ممن وافق
الأشاعرة على مذهبهم المبتدع.
ولن
يجرؤ أحد أن يُشكك في هذا القول، لأنني تعمدت أن أنقله من كلام أئمتهم وعلمائهم،
حتى لا نتهم بأننا نتقول عليهم.
فالقرطبي، وابن حجر، والغزالي، والسمعاني والبيجوري، غير متهمين عندهم .
ولا
يقال: إن هذا مذهب شاذ ، أو قديم ، عند الأشاعرة .
بل
هو مشهور ، مسطر في كل كتبهم .
وهذه
جوهرة التوحيد، المقرر تدريسها في الأزهر، يقول ناظمها، برهان الدين إبراهيم
اللقاني المالكي (ت 1041هـ):
فكل من كلف شرعاً وجبا
عليه أن يعرف ما قد وجبا
لله والجائز والممتنعا
ومثل ذا لرسله فاستمعا
إذ كل من قلد بالتوحيد
إيمانه لم يَخْلُ من ترديد
ففيه بعض القوم يحكي الخُلْفا
وبعضهم حقق فيه الكَشفا
فقال إن يجزم بقول الغير
كفى وإلا لم يزل في الضير
قال
سمير
:
فتبين من هذا أمران :
أولهما
: ما ذكرته في الجزء الأول من هذا البحث، أن الخلاف بين مذهب السلف، ومذهب
الأشاعرة، كبير، ويكذب من يزعم أنهما يمكن أن يجتمعا في مذهب واحد.
ثانيهما
: أن الغلو في التكفير، والمجازفة فيه، ليس مذهب السلف، بل هو مذهب الأشاعرة
وغيرهم من أصحاب الفرق الضالة.
وقد
علمت أنهم، بما أصّلوه من أصول كلامية مبتدعة، قد حكموا بها على أكثر العوام،
وعلى كل من خالفهم من أهل العلم، بالكفر، أو بالفسق وأن هذا الحكم الجائر ينجرّ
على أئمة السلف وعلى الصحابة!
فكيف
يزعمون بعدها أنهم يعظّمونهم ؟
ونقول
بعدها : لو لم يكن ثمة خلاف بين المذهبين ، إلا في مسألتي:
علم
الكلام، وأول واجب على المكلف، وما ترتب عليهما من لوازم، لكان كافياً في تكذيب
دعوى اتفاق المذهبين، أو حتى تقاربهما.
فكيف
إذا كان الخلاف بينهما في كثير من أصول الدين ؟
وسيأتي
الكلام على بعضها.
( الجزء الرابع
)
" مذهب
الأشاعرة "
خلطت
الأشاعرة مذهبها، وجمعت مقالاتها، من فرق شتى، في: الصفات، والقدر، والإيمان، والنبوات، وغيرها.
وقد
مرّ معنا أن الأصل الذي بنى عليه أكثر الفرق، مذاهبها (ومنها الأشاعرة)، وحكّموه
في فهم نصوص الوحي، هو علم الكلام.
"مشاهير المذهب"
أولاً: تنسب الأشاعرة إلى أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، المولود سنة 260 ه، والمتوفى
سنة 324 هـ.
نشأ
على مذهب المعتزلة، تقليداً لأبي علي الجُبّائي، ويقال إنه ظل على مذهبه 40 عاماً.
ثم
ترك الاعتزال، ورجع إلى مقالة مختلطة.
فقد
بقيت فيه شوائب من مذهب المعتزلة، والجهمية، وكثير من مقالات الكلابية، و بعض مقالات
السلف.
ثانياً: ألف الأشعري، بعد تركه الاعتزال، عدة كتب في الاعتقاد، منها: مقالات الإسلاميين، والإبانة، والموجز.
وهي
تخالف أكثر مقالات الأشاعرة المتأخرين.
واتفقت
كلمة الأشاعرة، على أن مذهب أبي الحسن الأشعري، وابن كلاب، متفق في الأصول.
وظل
الأشعري ينصر مذهبه الأخير، بأصول علم الكلام، ولم يكن يستدل بالنصوص إلا أحياناً، لكنه يخلطها بعلم الكلام.
ولم
يكن يدرك حقيقة مذهب السلف، لِمَا علق في فكره من مذاهب الفرق المبتدعة، فوقع في
تناقضات، يعسر حلها.
وغالباً
ما كان يُفَصّل المقالات بالطرق الكلامية، وحين يذكر كلام السلف، يذكره مجملاً.
وقد
ذكروا: أنه لما ترك مذهبه القديم، اعتزل الناس 15 يوماً، ثم خرج عليهم بكتب، وقال
إنها "مذهبه الجديد"!
فكيف
يعقل، أنه تخلص من كل شوائب المذهب القديم، وانكبّ على قراءة النصوص والآثار السلفية، وفهمها على وجهها الصحيح، ثم فرغ من التأليف فيها، في 15 يوماً؟
لو
قالوا: إنه ظل يبحث في مقالات السلف، ويرجع عن مذهبه القديم، شيئاً فشيئاً، لكان
ذلك ممكناً.
لكننا
نظرنا في كتبه المتأخرة، (كالمقالات والإبانة)، فما رأيناه رجع إلى مقالات السلف، إلا في مسائل يسيرة.
ثالثاً: ثم نظرنا في مقالات العلماء المنتسبين للأشعري بعد موته، فرأينا فيها اختلافاً كثيرا، بحيث لا يمكن عدها مذهباً واحداً، بل هي مذاهب وفرق مختلفة.
وأشهر
من جاء بعده الباقلّاني ( ت 403 هـ ) .
الذي
يعد المؤسس الثاني للمذهب الأشعري .
وهو
من أفاضلهم ، ومن أقربهم لمقالة الأشعري ، وإن خالفه في بعض المسائل .
ثم
ابن فورك ( ت 406 هـ ) .
واختار
مذهب تأويل الصفات الخبرية كلها .
وتصدى
للرد على مذهب السلف ، الذين كان يصفهم بــــــ ( المبتدعة ، والمجسمة ) .
والحق
، أنه لم ينفرد بتلك الفرية التي نسبها لأتباع السلف ، بل كل الأشاعرة يقترفونها .
ثم
أبو المعالي الجويني ( ت 478 هـ ) .
وهو
الذي ابتعد بمذهب الأشاعرة عن مقالة الأشعري والباقلاني ، وقرّبه إلى مذهب المعتزلة
.
ثم
أبو حامد الغزالي ( ت 505 هـ ) .
وكان
ينزع إلى الفلسفة والتصوف، حتى قال عنه تلميذه ابن العربي (الأشعري): شيخنا أبو
حامد بلع الفلسفة، وأراد أن يتقيّأها فلم يقدر.
ثم
جاء الفخر الرازي ( ت 606 هـ ) .
وهو
من أردأ من ترأس المذهب الأشعري .
ويكفيه
ضلالاً، ما ذكره في كتاب السر المكتوم، الذي شحنه بعلم السحر والتنجيم، وقد ذكر
العلماء بأنه أعلن فيه الشرك الصريح.
قلت: ويُحكى عن الثلاثة (الجويني، والغزالي، والرازي)، أنهم تابوا في آخر حياتهم، فنرجوا لهم قبول التوبة.
رابعاً: متأخروا الأشاعرة، لم يلتزموا مذهب أبي الحسن الأشعري، في كثير من مقالاته، بل
قلّدوا مذاهب المتأخرين، كالجويني وغيره.
فانتسابهم
للأشعري - ومنهم شيوخ الأزهر- لا يمثل الحقيقة، بل هم أقرب إلى مذهب الجهمية والمعتزلة.
"مقالات الأشاعرة
المخالفة للسلف"
لا
يحتمل مثل هذا البحث المختصر، تفصيل كل مخالفات الأشاعرة لمذهب السلف، وسأكتفي بذكر
بعضها، باختصار.
وتعدّ
كل مسألة، مما سنذكره، خلافاً أصلياً، يستحيل معه تقارب المذهبين، فضلاً عن دعوى
اشتراكهما في مذهب واحد، (مذهب السنة والجماعة) !
فأي
جماعة تلك، التي تختلف فيها الأقوال، إلى الحد الذي يلعن أصحابها بعضهم بعضاً، ويعلنون
لهم العداوة والبغضاء، ويقذفونهم بكل ألقاب السوء، بل ربما يكفّرونهم؟
وسنة
من تلك، التي تقبل الجمع بين مثل تلك التناقضات، المشتملة على مقالات الكفر والإيمان، والبِرّ والعصيان؟
1
- الصفات الخبرية .
وهي
صفات الله الذاتية، التي ورد ذكرها في القرآن والسنة، ولا تعلق لها بالمشيئة: كالوجه، والعينين، واليدين، ونحوها.
وأهل
السنة، أتباع السلف، يثبتونها كما جاءت، على ظاهر معناها، ولا يخوضون في كيفيتها، مع اعتقاد نفي التمثيل عنها.
وهو
مذهبهم المطّرد، في كل الصفات: الذاتية، والفعلية.
وأبو
الحسن الأشعري، قد صرّح في كتبه بإثبات هذا النوع من الصفات، وشنّع على المعتزلة
والجهمية الذين أنكروها، وأولوها بتأويلات مبتدعة.
كتأويل
اليد: بالقدرة ، أو النعمة .
وتأويل
العين : بالعلم .
وتأويل
الوجه : بأنه الذات . [ الإبانة ص 41 ، والمقالات 1 / 271 ] .
ووافقه
الباقلاني في كتابيه : الإبانة ، والتمهيد .
أما
الجويني فإنه تردد بين مذهب التأويل، الذي ذكره في كتاب الإرشاد، وبين مذهب التفويض، الذي قرره بعدُ، في الرسالة النظامية، وزعم أنه مذهب السلف.
وقلنا
من قبل، بأن التفويض، الذي يزعم هؤلاء المخالفون أنه يوافق مذهب السلف (وهو تفويض
المعنى)، لا علاقة له بمذهب السلف، وهو شر من التأويل.
وقد
سماه بعض علماء السلف : مذهب التجهيل .
وحاصله
: أن الوجه ، والعين ، واليدين ، لا يُفهم لها معنى معيّن، بل هي، بالنسبة لنا:
مجرد ألفاظ وحروف مركبة، استأثر الله تعالى بعلمها، وطلب منا الإيمان بها!
ومذهب
المتأخرين من الأشاعرة متقلّب بين التأويل ، والتفويض .
قال
صاحب الجوهرة :
وكل نص أوهم التشبيها
أوّله أو فوّض وَرُمْ تنزيها
2
- الصفات الفعلية الاختيارية .
وهي
الصفات المتعلقة بالمشيئة والاختيار :
كالاستواء، والمجيء، والإتيان، والنزول، والرضا، والغضب، والفرح، والضحك، والكلام وغيرها، مما يتعلق بمشيئة الله تعالى.
فمذهب
السلف: قد ذكرنا من قبل، أنه مطّرد في كل أقسام الصفات، وهو: إثباتها على الحقيقة، بما يليق بجلاله، دون الخوض في
كيفيتها، مع نفي التمثيل عنها.
فكما
أن ذات الله ليس كمثلها ذات، فصفاته ليس كمثلها صفات.
فنقول: إنه تعالى يتكلم متى شاء، ويجيء، وينزل متى شاء، وقد استوى على عرشه حين شاء،
ويفرح بتوبة العبد حين يتوب، ويرضى عنه حين يطيع ..وهكذا .
والأشعري
وأصحابه ينفون عن الله هذا النوع من الصفات، ويُحرّفونها عن معناها، فراراً من اعتقاد
حلول الحوادث به سبحانه، الذي يقتضي تماثل الخالق والمخلوق في صفة الحدوث، فيفضي
إلى إنكار الوجود الإلهي والقِدَم !
وهذه
اللوازم المبتدعة، نتاج فلسفة كلامية معروفة، ابتدعها المتكلمون، لإثبات وجود الله، بإثبات الفرق بين الحادث والقديم.
فأنكروا
تعلق الصفات الفعلية الحادثة بالله تعالى.
فمثلاً
: هم يرون أن كلامه، سبحانه وتعالى، صفة ذاتية قديمة، لا تتجدد بحسب الحوادث .
فيقولون
: إنه تعالى تكلم منذ الأزل بكلام واحد قديم .
ثم
خلق للعباد ما يدركون به كلامه .
فينفون
الكلام المتعلق به سبحانه ، الذي يتكلم به متى يشاء ، وكما يشاء .
فينكرون
أن الله يكلم ملائكته ورسله في وقت بعد وقت
.
وأنه
نادى نوحاً بالوحي ، زمن نوح ، ثم نادى إبراهيم ، بعد ذلك ، ثم كلم موسى عند الطور
، بعد ذلك بزمن.
ثم
كلم جبريل بالقرآن ، عند نزوله بالآيات ، في أوقات مختلفة ، بحسب الوقائع .
وينكرون
أن الله يكلم العباد يوم القيامة !
فالذي
يثبته الأشاعرة من صفة الكلام، الصفة الذاتية، يزعمون أنه سبحانه، قد تكلم بكلام واحد منذ الأزل، وأطلقوا
عليه الكلام النفسي، تقليداً لمقالة ابن كلاب، الذي اخترعها.
وأما
الاستواء، فيثبته الأشعري، لا على أنه صفة متعلقة بالله، بل على أنه (فعلٌ فَعَله
في العرش، فصار به مستوياً على العرش).
وكذلك
الإتيان والنزول .
وهذا
مختصر ، لا يتحمل التفصيل أكثر .
3
- صفة العلو .
وهذه
من كبرى المسائل التي وقع فيها الخلاف بين الفرق .
وأهل
السنة، أتباع السلف، يقرون بأن الله تعالى في السماء، ويثبتون له العلو الذاتي،
المكاني، كما تواترت عليه النصوص من الكتاب والسنة.
وظاهر
قول أبي الحسن الأشعري في كتابه الإبانة ، إثبات العلو والاستواء على العرش .
وأنكر
على المعتزلة والجهمية الذين يقولون : إنه في كل مكان .
ووافقه
الباقلاني في كتابه الإبانة ، وأنكر مقالة : إن الله في كل مكان ، فقال :
"
معاذ الله، بل هو مستوٍ على عرشه، كما أخبر في كتابه .. ولو كان في كل مكان، لكان
في بطن الإنسان.." الخ.
لكن
ننبه هنا أن أباالحسن ، لا يثبت العلو والاستواء ، على المعنى السلفي المحض .
والأشاعرة
المتأخرون ، ينكرون صفة العلو ، ولهم في المسألة قولان خطيران :
الأول
: إن الله في كل مكان .
وهو
الذي يحكونه ، غالباً ، للعوام .
والثاني
: إنه لا داخل العالم ، ولا خارجه .
وهو
القول الذي يتوارثه نُظّارهم .
ومقتضى
القول الأول : إنه سبحانه وتعالى حالّ في خلقه ، وهذا مذهب الحلولية الصوفية .
والقول
الثاني أخبث ، لأن مقتضاه : نفي الوجود الإلهي بالكلية !
4
-الإرجاء .
وهي
بدعة أنكرها السلف ، كما تقدم ذكره .
ومن
مقالاتهم : إن الإيمان هو تصديق القلب .
أو
هو معرفة القلب .
ومذهب
السلف ، أن الإيمان : تصديق بالقلب ، ونطق باللسان ، وعمل بالجوارح .
ومذهب
الأشاعرة موافق لمذهب الجهمية .
قال
الحافظ ابن حجر في الفتح [ 1 / 47 ] : " وقد انعقد اتفاق السلف على مخالفة مرجئة
الأشاعرة " .
5
- القدر .
ذكرنا
من قبل أن المعتزلة وافقت القدرية .
ومن
مقالاتهم : إن الإنسان يخلق عمله ، وإن الله لا يقدر أن يمنع العاصي من معصيته .
تعالى
الله عما يقولونه علواً كبيراً .
وقابلتهم
الجهمية بمذهب مضادّ، فزعموا أن الإنسان مجبور على الفعل، لا قدرة له على الطاعة
ولا على المعصية.
وذكرنا
مقالة أهل الحق : إن الله قدر المقادير كلها ، وإنه خلق العباد وخلق أفعالهم .
وإن
العبد له قدرة ، ومشيئة ، واختيار .
ومشيئته
تحت مشيئة العزيز القهار .
ومذهب
الأشاعرة موافق لمذهب الجهمية الجبرية .
واخترع
أبو الحسن الأشعري مقالة غريبة ، وهي الكسب ، وحاصلها : أن الإنسان مجبور في صورة مختار
!
أراد
بها أن يتوسط بين مذهبي : القدرية ، والجبرية ، لكنه في حقيقة الأمر : يقول بالجبر
.
" الماتريدية
"
وهي
فرقة تُنسب إلى أبي منصور محمد الماتريدي [257 - 333 هـ ] .
وهو
من سمرقند ، وكان قد تأثر بمذاهب المعتزلة والجهمية والكلابية ، على طريقة معاصره
: أبي الحسن الأشعري .
وينتسب
في الفقه إلى المذهب الحنفي .
ومن
ثَمّ ، فإن أكثر متأخري الأحناف ينتحلون مذهبه في الاعتقاد .
وأما
الأشعرية ، فيتقلّدون فقه الشافعية ، تبعاً لأبي الحسن الأشعري ، ووافقهم علماء
المالكية
المتأخرين .
" الفروق بين
المذهبين "
يتفق
الأشاعرة والماتريدية في كثير من المقالات ، ويفترقون في بعض المسائل .
واتفاقهم
في الأصول أكثر ، كالصفات ، والقدر، والإيمان .
وسأسرد
لك بعض الفروق بين الأختين .
وسأرمز
للأشعرية بحرف ش ، والماتريدية بحرف م :
1
- ش : يجوز أن يعذب الله الطائع .
م
: لا يجوز .
2
- ش : يجوز أن يُسمع كلام الله .
م
: لا يجوز .
3
- ش : يجوز التكليف بما لا يطاق .
م
: لا يجوز .
4
- ش : الإرادة والمحبة متحدتان .
م
: غير متحدتين .
5
- ش : يجوز قول "أنا مؤمن إن شاء الله" .
م
: لا يجوز ، ( وبعضهم يُكفّر قائله ) .
تنبيه :
نشأ من هذا الخلاف الأخير مسألة غريبة، حيث ذكر بعض متعصبة الحنفية: أنه لا يَحِل
تزويج المرأة الحنفية للشافعي، لأنه يَشُك في إيمانه.
قالوا:
ويجوز العكس ، تنزيلاً للمرأة الشافعية منزلة اليهودية والنصرانية !
قال
سمير
:
قد أطلت كثيراً ، وما قصدت الإطالة ، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
وكتب
سمير بن خليل
المالكي
مكة المكرمة
14/12/1437هــ