السبت، 28 سبتمبر 2013

إلى مشايخ الثورة

إلى مشايخ الثورة

الحمدلله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد ، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد ، فهذه تعقيبات على بعض مقالات مؤيدي الفتنة، التي ابتليت بها الأمة في هذه الأيام.
وقد عمدت إلى الاختصار في الرد ، لأمرين:
الأول: وضوح الخطأ في أكثر  تلك المقالات، فلا يحتاج إلى سرد الحجج والبراهين لبيان بطلانها.
الثاني: أنه قد سبق التفصيل في حكم هذه الفتن، في البحوث السابقة: "دعاة الفتنة" ، و"يؤتي الحكمة" ، و"حماقة الإخوان" ، ثم  "تناقض الأحزاب".
وقد ذكرت فيها النصوص التي تحرم القتال في الفتنة، ومنابذة ولاة الجور، وما يشهد لها من الآثار، والوقائع والأحداث، التي مضت في الدول والممالك السالفة.

" تحريض الثوار"
لما حصلت ثورة تونس وما بعدها، قام أكثر قادة الأحزاب بإعلان تأييدهم لها، وأعرضوا عن ذكر النصوص الصريحة في منع الخروج على ولاة الجور، وموقف السلف منها.
تكلم القرضاوي كثيراً، وخطب طويلاً, في تأييد الثورات، حتى قال عن رئيس ليبيا (اقتلوه ، ودمه في رقبتي).
وألمح إلى إباحة دم البوطي، فتم اغتياله في المسجد.
وأفتى: أن دعم الثوار, ضد نظام بشار، مقدم على حج بيت الله.
ولما سئل عن أحاديث الصبر على الولاة، استخف بها، وأشاح بيده، كأنه يطرد ذباباً وقع على وجهه، وقال: هذه لا يعمل بها، إلى متى الصبر؟
وضعف حديث حذيفة في مسلم الذي فيه (وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك).
قلت: منذ متى كان القرضاوي يفرق بين صحيح الحديث وضعيفه؟
بل هو صاحب رأي وهوى، وحاطب ليل في كل علم وفن.
هذا مع أن حديث حذيفة قد صححه مسلم، وله شاهد موقوف من قول عمر في مصنف ابن أبي شيبة.
وتشهد له النصوص الأخرى، التي ذكرت ظلم الولاة، واستئثارهم على الرعية، ومنعهم حقوقهم، وغير ذلك من المخالفات الشرعية.
كقوله صلى الله عليه وسلم (إنكم ستجدون أثرة ، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض). رواه البخاري.
وقوله (سترون بعدي أثرة ، وأموراً تنكرونها) .. إلى أن قال (تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم). متفق عليه.
وقوله (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره). متفق عليه.
وتعجب أن القرضاوي استدل ببعض هذه الأحاديث في تأييد مرسي بعد عزله !
قلت: وأما عن أمد الصبر على الجور فقد قال صلى الله عليه وسلم (حتى تلقوني على الحوض).
وأما العريفي: فله رأي سمج في حديث حذيفة، حيث ذكر أنه ينزل على من يظلم واحداً أو اثنين من الرعية، لا من يظلم كل الرعية!
وهذه مقولة لا تصدر إلا عن جاهل. فإن قوله (وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك)، ليس مقصوده ظلم الواحد، بل هو عام، كما يفهمه كل عاقل.
ثم أين النصوص الأخرى التي جاءت بصيغة الجمع؟
وتعجب حين يؤصل بعضهم المسألة، فلا يجد ما يستدل به إلا الثورات الغربية.
ففي لقاء مع حاكم المطيري، تكلم فيه عن الثورات العربية، وذكر أنه لابد من تضحيات بالأنفس الكثيرة في سبيل حرية الشعوب.
والدليل يا سماحة الإمام ؟
قال: الثورات الغربية، والحروب العالمية، التي ذهب فيها عشرات الملايين !
قلت: ما أرخص الدماء المسلمة عند أصحاب الهوى والفتنة، فإنه لم يشرع إراقتها إلا في الجهاد في سبيل الله، وهو القتال الشرعي المأذون فيه، المستوفي شرائطه، لا قتال الفتنة المنهي عنه.
(إن دماءكم وأموالكم، عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا).
(إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار).

" الجهاد في سوريا "
وأما عن الشأن السوري، فقد تتابعوا على إعلان الجهاد هناك، ومنهم من جعله فرض عين بالنفس: كالقرضاوي، والحويني، ومحمد حسان، والزغبي، ومحمد الددو.
ثم أكدوه في مؤتمر الأمة المنعقد في مصر في آخر عهد مرسي.
وصرح آخرون بفرضية الكفاية بالنفس، وتعيينه بالمال: كناصر العمر، والعرعور، وعبدالعزيز الفوزان، وعلوي السقاف، وخالد المصلح، وعثمان الخميس ( ثم تراجع أخيرا وأقر بخطأ الثورة لعدم القدرة ).
قلت: كيف تفعل بالدماء التي سفكت والأعراض التي انتهكت ، بسبب فتواك القديمة يا شيخ عثمان ؟
وكلهم صرحوا بكفر بشار ، ولم يلتفتوا إلى أمرين:
الأول: أن الحكم المطلق على الطائفة والمذهب شيئ ، والحكم على المعين شيئ آخر.
ولهذا فإن أكابر السلف، وإن كفروا الجهمية والرافضة، وغيرهم من الغلاة، من حيث العموم، إلا أنهم قد توقفوا في المعين.
ولهذا، لم يطلقوا الكفر على الولاة الذين امتحنوا العلماء، بالقول بخلق القرآن، ونفي الرؤية.
ثم من يشهد على بشار، أنه يعتقد مذهب النصيرية ؟
أوليس يشهر السنة، في صلاته ونسكه وشعائره، وقد أسند القضاء والإفتاء والخطب إلى علماء السنة ؟
الأمر الآخر: أنهم لم ينظروا في القدرة على خلع الكافر، فإنها شرط لإباحة الخروج عليه، كما ذكره العلماء، ومنهم ابن عثيمين.
وقد غرر دعاة الخروج بالعامة، وتركوهم فريسة لظلوم سفاك، لا يرقب فيهم إلّاً ولا ذمة، ففعل فيهم مالا يكاد يوصف.
هذا ، والشيوخ آمنون، هم وأولادهم ونساؤهم، حتى من زعم فرضية العين بالنفس، عجبي !
ثم زادوا على تلك البلية، أن كانت ندواتهم _ ولا تزال _ تعقد في تركيا، حليف الناتو، لتسليح العصابات العمية لضرب الشام.
وليتهم اتحدوا في هذه الفتنة أيضا، بل هم أكثر تفرقا مما كانوا عليه من قبل، طمعا في قطف الثمرة، بعد سقوط النظام.
فأي جهاد هذا، والرايات مختلفة، بل متناحرة ؟
وقد حصل تناوش بينهم وعدوان، هذا فيما ظهر حتى الآن، والله أعلم بحقيقة ما يجري بينهم من فتن.
وقد حصل تلاعب في تقسيم أموال المسلمين، التي جمعت للثوار، حتى جعل العرعور، يرعد ويزبد، ويقوم ويقعد، ويتوعد بهتك الأسرار !
فإن قيل: جهاد الدفع لا يفتقر إلى نية، ولا إمام، ولا راية، بل كل يدفع بحسب طاقته.
قلنا: تناقضتم، فإنكم ذكرتم أولا بأنه جهاد لخلع الكافر، وهذا جهاد طلب، ولا يكون كذلك، إلا إذا اتحدت الراية والنية منذ البداية، حتى لا يخلع كفر، ويحل محله كفر آخر _ كما حصل في تونس وليبيا.
ثم زعمتم أنه جهاد دفع للصائل، فنقول: ومن الذي هيج الصائل في الأساس ؟
كان الناس آمنين في الشام، يشهد بهذا كل من دخلها سياحة أو تجارة.
فما زلتم تحرضون الأغرار، وتؤزونهم إلى الخروج أزاً، حتى أوذي الشعب كله، وأنتم على يقين جازم، أنهم لا قبل لهم بجيش الظالم، فأسلمتموهم له، يهتك ويسفك، ثم خطبتم على أشلائهم وأعراضهم.
ثم نقول: حين فعل يزيد بأهل الحرة في المدينة ما فعل، لم لم يعلن الجهاد عليه الصحابة والسلف _ دفعا للصائل ؟
ولماذا لم يدفعوا صولة الحجاج على الكعبة ؟
والواقع أن أكثرهم قد اعتزل تلك الفتن، حتى ربما تركوا الاستخبار عنها.
قال مطرف بن عبدالله (لبثت في فتنة ابن الزبير تسعاً _ أو سبعاً _ ما أخبرت فيها بخبر، ولا استخبرت فيها عن خبر). ابن سعد [7/143].
وقيل للشعبي في فتنة ابن الأشعث:
أين كنت يا عامر ؟
فقال : كنت حيث يقول الشاعر :
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
وصوت إنســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــان فكدت أطير
منهاج السنة [ 4 / 240 ] . 


" مجازفات خطيرة "
ومن أشنع ما اختلقه رؤساء الفتنة ، دعوى نزول الملائكة لنصرتهم .
وقد ذكر العريفي في خطبته _ نقلا عن مجهول في سوريا _ أن الملائكة  كانت مع الثوار، ضد جيش بشار.
وهذه مجازفة عظيمة، والشيخ محسوب على أهل العلم، فكيف يخوض في أمر غيبي خوض الجهلة ؟
وإلى متى ستظل خطب الشيخ: حكايات ، وطرائف ، ومجازفات؟
وقد زعم محمد البلتاجي أن جبريل والملائكة تنزل بالسلام ليلة القدر على معتصمي رابعة، وبالدمار على معتصمي التحرير.
قلت: {سلام هي حتى مطلع الفجر} فمن أين أتيتم بأنها على غيركم عذاب ودمار؟
وإلى متى تجترئون على الغيب، بمثل هذه الهرطقات التي تقذفونها لتأييد ثوراتكم؟
ومن الذي أنبأكم بهذا ، أعلى الله ورسله تفترون ؟
وما سمعنا أن الصحابة والسلف زعموا شيئاً من ذلك ، وقد خاضوا معارك عظيمة، أشرف من كل ثوراتكم العمية.
خاضوا حروب الردة، وفارس والروم، وغيرها، وما ادعى أحد أن جبريل، أو غيره من الملائكة، نزل لنصرته.
وأما قتال الفتنة في الجمل وصفين، فإنهم كانوا أكثر ورعاً من أن يدعوا فيه تلك الدعوى، بل قد ندم أكثرهم على خوضهم فيها.
ومن أشنع المجازفات، مقالة موفق السباعي، التي جاء فيها (وكأن الله تعالى _ وهو القائد الأعلى، والرائد الأسمى، لهذه الثورة الشامية المباركة  _ يغار على عبيده الطيبين المعذبين .. ) الخ !
قلت: نستغفر الله العظيم.
وماذا تركتم لغلاة الرفض والتصوف، من رجم بالغيب، بعد هذا ؟
ثم: لماذا لم نسمع إنكاراً على مثل تلك الطوام ؟
وأين بكاء الشيخ ناصر العمر ؟

" الخوض في الفتن "
ندبت النصوص والآثار إلى الفرار من الفتن ، حتى بوب البخاري في صحيحه بــــ ( باب من الدين الفرار من الفتن ).
ثم ذكر حديث (يوشك أن يكون خير مال المسلم، غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن).
وهذا الحديث، يشير إلى فضل التنائي عن الفتن، والتحذير من الاستشراف لها، خشية أن يقع المسلم فيها.
وأصرح منه، حديث (ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأً أو معاذاً فليعذ به). متفق عليه .
وحديث (.. تكف لسانك ويدك، وتكون حلساً من أحلاس بيتك). رواه أبوداود.
ومع وضوح المعنى في تلك النصوص إلا أن أكثر الشيوخ قد خاضوا في الفتن والثورات، تحريضاً وتحريشاً ، حتى زعموا فرضية المشاركة فيها، وتأثيم المعتزل، والساكت فيها.
في لقاء مع عبدالعزيز الطريفي سئل فيه عن موقف المسلم في الفتن، فتكلم بكلام طويل لا فائدة فيه تذكر، ثم خلص إلى قول عجيب.
حيث زعم أن على العالم أن يخوض في غمار الفتنة، وتأول حديث (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال)، بأنه خاص بالجاهل، الذي لا يدرك التفريق بين الحق والباطل .
وهذا خطأ فاضح ، فإن النصوص كلها تندب المسلم إلى الفرار من الفتن، وقد أغفل الشيخ ذكرها _ مع أنها مشهورة في الصحاح وغيرها _ وقد عمل بها أكابر الصحابة والسلف، واستدل بها الأئمة على وجوب اعتزال الفتنة.
وقد أثنى الطريفي في ذلك اللقاء على كل الثورات العربية، وعدها مخاضا لما سيأتي بعدها من خير.
قلت، أولا: أي خير حصل للأمة في تونس وليبيا ومصر وسوريا ؟
قال ابن تيمية: ( وقل من خرج على إمام ذي سلطان، إلا كان ما تولد على فعله من الشر، أعظم مما تولد من الخير، كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة، وكابن الأشعث، الذي خرج على عبدالملك بالعراق ..
وغاية هؤلاء: إما أن يغلبوا، وإما أن يغلبوا، ثم يزول ملكهم، فلا يكون لهم عاقبة ) . المنهاج [ 4 / 240 ] .
ثانيا: تعجب من سعة حفظ الشيخ الطريفي للنصوص، ثم يأتي في مسألة الفتن والخروج على الولاة، فيضرب عنها صفحاً، ويخوض فيها خوض أهل الرأي والهوى.
يقول ابن تيمية ( ومن استقرأ أحوال الفتن التي تجري بين المسلمين، تبين له، أنه: ما دخل فيها أحد فحمد عاقبة دخوله، لما يحصل له من الضرر في دينه ودنياه، ولهذا كانت من باب المنهي عنه، والإمساك عنها من المأمور به، الذي قال الله فيه {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } . المنهاج [ 4 / 184 ] .
وقد أطال شيخ الإسلام الكلام عن الفتن عموماً، وعن الفتن التي حدثت بين الصحابة، وذكر أن ترك الخوض فيها هو المذهب الراجح، وأن أكثر الصحابة على هذا، وأن من خاضها من الكبار، قد ندم على ذلك.
قال الزبير بن العوام عن آية { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } : لم نكن نحسب أنّا أهلها حتى وقعت فينا حيث وقعت.
وروى البخاري عن خلف بن حوشب قال : كانوا يحبون أن يتمثلوا بهذه الأبيات عند الفتن :
الحرب أول ما تكون فتية
تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها
ولت عجوزا غير ذات حليل
شمطاء ينكر لونها وتغيرت
مكروهة للشم والتقبيل
وفي لقاء آخر، تكلم فيه الطريفي عن مؤتمر الأمة لنصرة سوريا، ثم زعم أن الساكت _ غير المشارك _ في دعم ثورة سوريا، يعد شريكاً في الإثم !
وشبهه بمن لعن من بني إسرائيل لتركهم الإنكار !
ثم وصف من يمنع الناس من نصرة الثوار ، بأنه جاهل ( جهلاً مستفحلاً عريضاً ) ، كذا قال بالحرف .
قلت : وهذا جهل فاضح من الشيخ، ومعارضة صريحة، للنصوص والآثار .
وفي الحديث < إنها ستكون فتنة تستنظف العرب ، قتلاها في النار ، اللسان فيها أشد من وقع السيف > .
رواه أبو داود والترمذي .
وفي أثر حذيفة بن أسيد، ذكر شر الناس في الفتن، فقال <كل خطيب مصقع ، وكل راكب موضع>. صححه الحاكم [4/529].
وقوله < راكب موضع > ، أوضع : أي أسرع.
والمعنى : أن شر الناس في الفتن ، من يسارع في خوضها ، ومن يحرض الناس عليها ، ويغرر بهم ، لفصاحة لسانه .
ولا زلت أعجب من مثل الشيخ المحدث الطريفي ، في سعة علمه وحفظه ، ثم يتمحل في تأويل النصوص الصريحة في الفتن ، ويخوض في أمور السياسة ، على سنن أهل الرأي والظن .   
وقد سئل محمد الددو عن فتنة مصر، بعد عزل مرسي ، فزعم أن الساكت عن إنكار ما فعله الجيش ، يعد شريكا في إثم تلك الدماء!
قلت: والعجب أيضا من مثل هذا  الشيخ ، الذي يحفظ فنون العلم ، ويتزيّا بزي أكابر الفقهاء ، ثم ينطق بمثل هذا الهراء !
وأعجب من ذلك استدلاله بأثر عمر في قتيل اليمن < لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم >.
قلت : وهذا جهل آخر ، فإن هذا يقال فيمن اشترك في قتل معصوم ، فما شأن الساكت ؟
وأقول للشيخ: كلا ، بل من أخرجهم، وغرر بهم ، وحرضهم ، أولى بالمشاركة في إثم تلك الدماء ، ممن سكت واعتزل ، أو نصحهم بالقرار في البيوت واجتناب الفتن والقتل.
وفي الصحيح : أن رجلا جاء إلى ابن عمر يسأله عن دم البعوض ، فسأله ممن أنت ؟ فقال : من أهل العراق .
فقال < انظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض ، وقد قتلوا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم>.
فجعل من تسبب في قتله ، ممن حرضه وغرر به ، كمن قتله.
وابن عمر ، وأكثر الصحابة ، كانوا قد اعتزلوا ذلك القتال ، ومنهم من نصح الحسين بعدم الخروج ، حتى كاد ابن عباس أن يمنعه بيده.
فأي الفريقين أحق بأن يكون مشاركا في دم الحسين : ابن عمر ، ومن معه من أكابر الصحابة والتابعين ، في سكوتهم عن الإنكار على يزيد ، واعتزالهم لنصرة الحسين ( وكذا أهل الحرة ) ، أم من حرضهم وغرر بهم ؟
جاء رجل إلى ابن عمر يحرضه على الدخول في الفتنة ، فذكر له قول الله تعالى { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } الآية .
فقال ابن عمر : يابن أخي ، أعير بهذه الآية ، ولا أقاتل ، أحب إلي من أن أعير بالآية التي يقول الله فيها {ومن يقتل مؤمناً متعمداً}. رواه البخاري.
وفي سنن أبي داود، في قصة الذين أفتوا بوجوب الغسل لصاحب الشجة، فتسببوا بقتله، فقال صلى الله عليه وسلم (قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا). الحديث.

" خاتمة "
وأختم بكلمة جامعة ، أدعو فيها كل مشايخ الثورة ، إلى التحاكم إلى النصوص والآثار ، والتمسك بمذهب السلف الأخيار، والاعتبار بالأحداث التي حصلت من قبل في هذه الأمة ، والحذر من التحريض على الخروج على الولاة ، وإن كانوا من الفجار.
قال ابن تيمية ( ولهذا استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة ، للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم ، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة ، وترك قتالهم وإن كان قد قاتل في الفتنة خلق كثير من أهل العلم والدين ) . منهاج السنة [ 4 / 241 ].
ولا يجرمنكم شنآن من يخالفكم من أهل العلم ، أن لا تعدلوا ، فتعرضوا عن اتباع النصوص والآثار ، لكونهم أشهروها ، فكانوا هم أوفر حظا بها ، وأكثر إشادة منكم بها.
ولا يأتي مخالفوكم  بالأثر والقول المسدد ، وتعارضونهم أنتم بالظن والرأي المجرد.
وأنصح كل من ينتصر لشيخ يعظمه ، أو طائفة ، أو حزب ، أن يتحرى الحق ، ويدور معه حيث دار ، فإن الحق لا يعرف بالرجال.
قال الإمام ابن بطة في الإبانة ( فإن هذه الفتن والأهواء ، قد فضحت خلقا كثيرا ، وكشفت أستارهم عن أحوال قبيحة ، فإن أصون الناس لنفسه ، أحفظهم للسانه ، وأشغلهم بدينه ، وأتركهم لما لا يعنيه).
وقال الفضيل ( الزموا في آخر الزمان الصوامع _ يعني البيوت _ فإنه ليس ينجو من شر ذلك الزمان إلا صفوته من خلقه).
روى ابن عبدالبر في جامع بيان العلم، واللالكائي في السنة، عن مصعب الزبيري أنه أنشد :
أأقعد بعدما رجفت عظامي
وكان الموت أقرب ما يليني
أجادل كل معترض خصيم
وأجعل دينه عرضا  لديني
فأترك ما علمت لرأي غيري
وليس الرأي كالعلم اليقين
وقد سنت لنا سنن قوام
يلحن بكل فج أو وجين
وكان الحق ليس به خفاء
أغر كغرة الفلق المبين
فأما ما علمت فقد كفاني
وأما ما جهلت فجنبوني
وكنا إخوة نرمى جميعا
ونرمي كل مرتاب ظنين
فما برح التكلف أن رمتنا
بشان واحد فرق الشئون
فأوشك أن يخر عماد بيت
وينقطع القرين من القرين

قال الله تعالى: { قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين }.


***********************
وكتب : سمير بن خليل المالكي
جوال 0591114011
مكة المكرمة حرسها الله..
الجمعة    21/11/١٤٣٤هـ


الثلاثاء، 17 سبتمبر 2013

تناقض الأحزاب


"تناقض الأحزاب"

الحمدلله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه .
أما بعد ، فإن من غربة الإسلام في هذا الزمان، وفي كل زمان، التباس الحق بالباطل وقت الفتن، واختلاط الخاثر بالزباد، واشتباه الأمور الواضحات، وخفاء الدلائل البينات، حتى على بعض مشاهير العلم.
وقد حصلت في صدر الإسلام وقائع وأحداث في أمور السياسة والدين، اشتبهت على بعض الأعاظم ، فوقعوا في بعض المآثم ، ولم يسلم منها إلا من عصمه الله.
وقعت فتنة الجمل وصفين، ودخل فيها من دخل، إلا من عصم منها فاعتزل، وهم كثير من الصحابة، لأن القتال فيهما لم يكن قتالاً محموداً ، بل كان قتال فتنة.
كما قرر ذلك ابن تيمية في مواضع كثيرة من كتابه منهاج السنة ، ونقل عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة أن علياً ، وإن كان أولى بالحق من مخالفيه ، إلا أن ترك القتال كان هو الصواب ، ولهذا امتدح النبي صلى الله عليه وسلم فعل الحسن في الصلح بين الطائفتين ووصفه بالسيادة ، لتنازله لمعاوية عن الخلافة.
ومذهب السلف السكوت عما شجر بين الطرفين ، والاستغفار لهم ، والترضي عليهم أجمعين.
أما عن التفرق في الدين ، فلم يحصل من أحد من الصحابة شيئ من ذلك ، فقد عصمهم الله من تلك المهالك.
جاء في موعظة النبي صلى الله عليه وسلم قوله < أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة ، ولو تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيرًا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور .. >. الحديث .
فبين قرب حصول الاختلاف ، وكثرته ، وقد حصل إثر مقتل عثمان ، فنشأت كبرى الفرق : الخوارج ، والشيعة، وحصلت فتنة الهرج والقتل بالخروج على الولاة ، والتنازع على الخلافة.
فإذا كان هذا الاختلاف الكثير ، في السياسة والدين ، قد حدث في زمن الصحابة ، فكيف بمن بعدهم ؟
وقد ذكر في الحديث العصمة من التفرق والاختلاف : بتقوى الله ، والتمسك بالسنة ،  والسمع والطاعة للأئمة ، ولو كره منهم نسب وشكل ، أو كره منهم سيرة وعمل ، كما دلت عليه أحاديث أخرى كثيرة .

" القعود في الفتنة "
تواترت أحاديث السمع والطاعة للولاة والأمراء ، وبلغ شأنها مبلغاً عظيماً ، لم يرق لبعض من ينتسب للدعوة والوعظ ، في هذا الزمان ، وضاقت بها صدورهم ، وكتموها عن مجالسهم وخطبهم ، فلما سئلوا عنها طلبوا لها أصنافاً من التأويلات البعيدة.
فزعم بعضهم اختصاصها بالولاة العدول ، لحديث < ولو تأمر عليكم عبد يقودكم بكتاب الله >. رواه مسلم.
وزعم بعضهم أنها مقيدة بمن أقام الجهاد وشرائع الإسلام .
وثرثر بعضهم بمقال ، لا يصدر إلا عن جهال ، فزعم أن حديث حذيفة < ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك > ، خاص بمن يظلم واحداً أو اثنين من الرعية.
وزعم كبيرهم أن الحديث ضعيف.
قلت : قد وردت أحاديث كثيرة ترد كل تلك التأويلات المستكرهة.
وأصرحها حديث حذيفة ، الذي جاء فيه < دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها.
قال حذيفة : فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم > . متفق عليه.
وفي لفظ عند مسلم < يكون أئمة لا يهتدون بهداي ، ولا يستنون بسنتي ، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس.
قال حذيفة : كيف أصنع يارسول الله؟ قال : تسمع وتطيع للأمير ، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك ، فاسمع وأطع>.
وقد ذكر النووي في شرح مسلم أن هؤلاء الأمراء : هم دعاة البدعة والضلالة ، كالخوارج والقرامطة.
وأما عن إقامة الولاة لشرائع الإسلام، كالجهاد وغيره ، فإن الأحاديث خصت إقامة الصلاة فقط.
فورد في صحيح مسلم < أفلا ننابذهم ؟ قال : لا ما أقاموا فيكم الصلاة > . وفي لفظ < ما صلوا > .
وقد وجد في الولاة في عصر الصحابة والقرون المفضلة ، أعظم خصال الفسق والظلم والفجور.
حتى الصلاة قد ضيعت ، كما صرح بذلك أنس ، وذلك في زمن بني أمية.
قال أنس < قد صليتم حين تغرب الشمس ، أفكانت تلك صلاة رسول الله > ؟
وفي لفظ قال < إنكم تصلون الظهر مع المغرب .. > . رواه أحمد.
ذكره ابن رجب في شرح البخاري [ 3 / 57 ] ، وذكر أن الحجاج ربما كان يصلي الجمعة عند غروب الشمس ، فتفوت الناس صلاة العصر ، فكان بعض التابعين يصلي في المسجد الظهر والعصر إيماء ، خوفا من الحجاج.
وساق ابن حجر في الفتح رواية عبدالرزاق أن عطاء قال : أخر الوليد الجمعة حتى أمسى ، فجئت فصليت الظهر قبل أن أجلس ، ثم صليت العصر ، وأنا جالس إيماء وهو يخطب.
قال ابن حجر ( وإنما فعل ذلك عطاء خوفا على نفسه من القتل ).
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فلما سألوه كيف نصنع ؟
قال < تصلون الصلاة لوقتها ، وتصلون معهم ، وتجعلونها نافلة >.
ووجد في زمن الأئمة بعد ذلك ، من دعا إلى القول بخلق القرآن ونفي الرؤية ، وهما من أخبث مذاهب المعتزلة.
وقد صرح الإمام أحمد وغيره من الأئمة بكفر من قال بهما.
ولم يكفروا من دعا إلى ذلك من الولاة ، وامتحن العلماء به، كالمأمون والمعتصم والواثق ، بل كانوا يعتقدون إمامتهم ، ويحذرون من منابذتهم.
فإن اعترض معترض بخروج الحسين، وسعيد بن جبير ، وبخروج محمد بن عبدالله بن الحسن بالمدينة ، وأخيه إبراهيم بالبصرة ، وبخروج محمد بن نصر .. وغيرهم.
حاججناهم بالنصوص الصريحة في منع الخروج ، وبفعل أكابر الصحابة والتابعين والأئمة ، ممن امتنعوا من ذلك ، بل حذروا منه أشد تحذير.
وقد ندم أكثر من خرج من الصحابة والسلف ، أو قاتل في الفتنة ، بعد أن رأوا ما حصل من شر و بلاء على الأمة.
وقد استقر مذهب السلف على هذا القول ، وهو : الكف عن منابذة الولاة ، والصبر عليهم _ ولو جاروا  _ وترك القتال في الفتنة ، وهو القتال بين المسلمين ، حتى حكى الإجماع عليه غير واحد ، ودونوه في مصنفات الاعتقاد والسنة ، وجعلوه شعارا لأهل السنة والجماعة ، وشنعوا على الخروج وأهله ، وجعلوه شعارا لأهل البدعة.
وقد نقموا على أبي حنيفة والحسن بن صالح وغيرهما ، الخروج بالسيف ، وعدوا ذلك من أشنع بدعهم.
لكنهم اعتذروا عن فعل الصحابة ، وجعلوهم متأولين ، لما لهم من فضل وسابقة في الدين ، ولأن ذلك قد حصل قبل استقرار مذهب السنة.
ومما يعضد مذهب السلف أيضا ، ورود نصوص كثيرة ، تحذر من القتال في الفتنة ، منها:
1 _ < لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض > . متفق عليه.
2 _ < من حمل علينا السلاح فليس منا > . متفق عليه.
3 _ < إذا التقى المسلمان بسيفيهما ، فالقاتل والمقتول في النار > . متفق عليه.
4 _ < ستكون فتنة ، القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي ، من تشرف لها تستشرفه ، ومن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به >. متفق عليه.
5 _ < من قاتل تحت راية عمية ، يغضب لعصبة ، أو يدعو  إلى عصبة ، أو ينصر عصبة ، فقتل ، فقتلة جاهلية > . رواه مسلم.
6 _ < تلك أيام الهرج ، حيث لا يأمن الرجل جليسه.
قلت : فما تأمرني إن أدركني ذلك الزمان ؟
قال : تكف لسانك ويدك ، وتكون حلسا من أحلاس بيتك > . رواه أبوداود.
7 _ < ويل للعرب من شر قد اقترب ، أفلح من كف يده > . رواه أبوداود.
8 _ < إنها ستكون فتنة تستنظف العرب ، قتلاها في النار ، اللسان فيها أشد من وقع السيف > . رواه أبوداود والترمذي.
9 _ وذكر في حديث أبي ذر في السنن < .. إن خشيت أن يبهرك  شعاع السيف ، فألق من طرف ردائك على وجهك ، كي يبوء بإثمه وإثمك > .
وكل هذه النصوص ، وغيرها ، تؤيد مذهب السلف في ترك الخروج على الأئمة ، وترك القتال في الفتنة.

" الثورات العمية "
جاء في آخر حديث حذيفة المشهور ، قوله < أرأيت إن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟
قال : تعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض بأصل شجرة ، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك > .متفق عليه.
فبين أنه لو فرض  خلو الزمان من الجماعة والإمام ( وذلك مدعاة لكثرة الفرق السياسية ) ، فالواجب اعتزال تلك الفرق كلها، دون تخصيص.
وقد نبتت نابتة في هذا العصر ، وأنشأت حزبا دعويا سياسيا ، تفرخ منه فرق وأحزاب ، أظهروا السنة ( وهم بين مقل منها  ومكثر ، بحسب منهج الحزب ) ، زعموا أنهم يسعون إلى إقامة خلافة راشدة على منهاج النبوة.
وقد تبنوا الخروج على أئمة الجور ، ومنازعتهم الولاية.
فلما حصلت الثورات العربية ، فرحوا بها ، وقام خطباؤهم ووعاظهم بإشعال فتيل الفتنة ، واغتر بهم جموع كثيرة من المنتسبين للعلم ، ولم يلتفتوا للنصوص ، ولا لأقوال السلف ، بل ضربوا بها عرض الحائط ، وعارضوها بأرائهم وآراء شيوخهم من رؤساء الأحزاب.
وحرفوا نصوص الجهاد ، وأنزلوها على قتال المسلمين ، في تونس واليمن وليبيا ومصر والشام .
فإن قلت لهم : إن هذه الثورات إنما ابتدأها الغوغاء ، بخطة مكر وخديعة من الأعداء ، ثم انجر وراءها العوام .
قالوا : أما رأيت القتل والاغتصاب والدمار ؟ أما رأيت خراب البلاد ، وهلاك العباد ؟
قلنا : وهل بدأ الرؤساء بهذه الجرائم ، من القتل والاغتصاب  والعظائم ؟
قالوا : الولاة كفار ، إما باعتقاد ، وإما بعمل ، أو بهما معا ، كرئيس الشام .
قلنا : من خرج عليهم ابتداء لم يزعم ذلك ، وأنتم تقرون بذلك ، فإنهم كانوا ثوار خبز ، أو حرية ، ثم صاروا طلاب ثأر وحمية.
وقد خالفتم الثوار في النية ، فقاتلوا بنية الخبز والحرية ، وثورتموه أنتم قتالاً بنية خلع الكافر ، أو دفع الصائل، فتعددت الرايات، وتباينت النيات.
ثم : ما الذي أستفاده الناس من كل تلك الثورات العمية ؟
دماء معصومة أريقت ، وحرمات قد انتهكت واغتصبت ، وديار خربت ، وجيوش للإسلام أضعفت ودمرت .
قالوا : الجهاد واجب في سوريا لأمرين :
كفر بشار ، لأنه نصيري بعثي .
ونصرة المظلومين من شعبه .
قلنا : هل كان كافرا منذ بدء ولايته ، أم طرأ عليه الكفر بعدها ؟
فإن قالوا : بل لم يزل كذلك ، هو وأبوه من قبل.
قلنا : التكفير المطلق للطائفة ، أو للمذهب ، أمر ، وتكفير المعين أمر آخر.
وهل سمعتموه ، أو رأيتموه ، أشهر ملة الكفر ؟
والذي رآه الناس بيقين ، أنه : يصلي ويصوم ، كما يفعل أهل السنة . ويأتم في الجمعة والعيد بإمام من أهل السنة ، ويسند الإفتاء والقضاء ، والوعظ والإرشاد ، لعلماء السنة.
فإن قيل : إنما يفعل ذلك نفاقا.
قلنا : والمنافقون يعاملون بالظاهر ، والله يتولى السرائر.
وقد وجد أكبر المنافقين في زمن النبوة ، فعصمت دماؤهم وأموالهم ، هذا وهم كانوا إذ ذاك رعية لا ولاة.
ثم : إن رئيسكم القرضاوي لا يراه كافرا ، وقد زاره وأثنى عليه قبل الثورة.
ومن خرج عليه وقاتله لا يرى كفره ، بل في قادة الثوار من هو نصراني ، وفي الجيش الحر من هو شر من بشار.
وقد استمعت للعرعور وهو يصيح ويولول ، محذرا من الخروج في سوريا ، ثم انقلب بعد أشهر ، فصار من أبواق الثوار.
وقد كشفت هذه الثورات العمية ، تناقض الأحزاب والفرق السياسية .
فكما فعل القرضاوي في سوريا من قبل ومن بعد ، من تناقض وتناكد ، فعل مثله سلمان العودة في تونس وليبيا ، مديح وثناء على النظام ، ثم الحض على الثورة عليه .
وكذلك فعل محمد حسان والعريفي مع رئيس ليبيا ، وعائض القرني مع الرئيس اليمني .
وهم مضطربون في تعليل الثورات ، فتارة يزعمون أن الكفر هو الباعث لها .
فإذا قلت لهم : واليمن ومصر ؟
قالوا : ظلم من الولاة ، ثار من أجله طلاب الحرية .
فإذا قلت لهم : والانقلاب على مرسي ؟
قالوا : ظلمه الجيش ، إما يرجع ، أو تفنى دونه الرعية !
وقد تناقضوا في كل شيئ ، حتى زعم ناصر العمر أن المظاهرات مباحة إلا في السعودية !
وزاد عليه العرعور: وكذا في سورية.
وقال آخرون : إلا في مصر ، لكي لا يستغلها الأقباط.
وقيل : إلا في اليمن ، لأن العامة هناك أهل حرب وحملة سلاح .
وكلهم يبتغي دفع البلاء عن وطنه .
والمقصود : أن اختلافهم في الفتاوى واضطرابهم في التعليل والتحليل ، أظهر جهلهم ومخالفتهم للنصوص ، ولما استقر عليه مذهب السلف .

" الاستنصار بالكفار "
ومن تناقض شيوخ الفتنة والأحزاب ، استنصارهم بجند الصليب في ثوراتهم في ليبيا والشام ، واستعداؤهم على أهل الإسلام.
ولا أعلم لهم في ذلك شبهة دليل ، سوى الرأي الكاسد ، والقياس الفاسد.
فإن زعموا الاضطرار ، قلنا : ما الذي أوجب الخروج والثورة ابتداء ؟
أليس بزعمكم : كفر الولاة وجورهم؟
فكيف تستعينون بأعدى الأعداء من الكفار ، على ولاة اختلف في كفرهم ؟
وأما الظلم والجور ، فما رأينا أظلم ولا أطغى من حزب الصليب على أهل الإسلام .
ثم : متى كانت القدرة على خلع الولاة ، تعني القدرة بالغير ، بأن يستعان بجيش العدو الكافر الأصلي؟
وانظر كيف تناقضوا ، فحين اجتاح صدام البعثي بلاداً ، وهدد أخرى ، واستعين بالناتو عليه ، أرعد وأزبد خطباؤهم ، وأشهروا النكير على ذلك الفعل ، وحصلت بسببه فتنة في بلاد الحرمين ، وانقسم المشايخ والدعاة، بعد أن كانوا مجتمعين ، وأوذي جمع من الوعاظ والصالحين.
ثم : هاهم الآن ، يؤزون الثوار ، ويستعينون بالكفار ، ويفرحون باحتلال ليبيا ، ويستبشرون  بتهديد سوريا .
وإخوانهم في مصر يستحثون أمريكا لضرب الجيش ، وإعادة المعزول !
فأي نصر للإسلام ، تأملونه من عباد الصليب ، يا أولي الأفهام ؟
المستجير  بعمرو  عند كربته
كالمستجير من الرمضاء بالنار
ثم : أين ذهب استدلالكم بآيات التولي في المائدة ، وحديث < إنا لا نستعين بمشرك > ، وقد كنتم ترددونها من قبل في خطبكم ودروسكم ، وأما اليوم فلا نسمع منها حرفا !
ثم : إنكم لم تصنعوا شيئا سوى أنكم أسلمتم العامة أولا : لبطش جبار ظالم ، فنكل واغتصب وقتل ، حتى إذا أثخن فيهم ، أغريتم حزب الصليب  ليجهز على البقية.
هذا وأنتم على يقين، بأنهم سيفتكون بالطرفين : جيش النظام ، وراياتكم العمّيّة.

" الاعتصام السلمي "
استولى قادة الجيش المصري على الحكم ، وعزلوا الرئيس المنتخب ، فصارت لهم ، بالغلبة والقهر ، ولاية على أهل مصر.
وقد حكى الإجماع على ذلك ابن حجر ، كما ذكرناه في بحثنا السابق "حماقة الإخوان" .
ولا فرق بين الغلبة بالجيش والقوة ، وبين الغلبة بكثرة الأصوات ، فكلاهما يجب له السمع والطاعة في المعروف .
ومن يقول : بأن المتغلب بالقوة والانقلاب العسكري ظالم ، فلا ولاية له ، ولا سمع ولا طاعة ، فإنه جاهل مكابر ، فإن كثيرا من الدول والممالك إنما قامت بالقهر والغلبة.
وأمير قطر انقلب على أبيه وعزله ، أترون الولاية والطاعة تكون للعازل أم للمعزول ؟
ولماذا أقر كل قادة الأحزاب ، انقلاب قطر ، وعارضوه في مصر ؟
ولماذا أقر قادة الإخوان والأحزاب الانقلابات المعاصرة ، بل شاركوا في بعضها _ كالانقلاب الناصري في مصر _ وأبوا ذلك الآن ، وأخرجوا النساء والأطفال وحشدوا الكبار والصغار ، في مظاهرات زعموا أنها سلمية ، ولم تكن قط كذلك ؟
فقد صرح كبارهم مرارا ، بتحدي الجيش ، وتوعدوهم بالثأر للمعزول ، الذي صار في حكم المعدوم .
وتعهد البلتاجي : بوقف العمليات في سيناء ، بشرط رجوع مرسي ، أهكذا يكون الاعتصام السلمي ؟
وكرر صفوت حجازي التهديد والوعيد ، حتى قال : إن هناك تصعيدا كبيرا ، لا يخطر على البال ، سيتم ، إن لم يرجع مرسي للحكم .
وردد هو ، ومن معه ، عبارات الثأر والحمية ، وتغنوا بها ، وصرحوا بإراقة الدم في سبيل عودة " الشرعية " !
ثم هددوا بتدخل الجيش الأمريكي ، وأخرجوا الأطفال حاملين أكفانهم ، وكل ذلك تحت شعار السلمية !
ثم صاروا هذه الأيام يحرقون مقرات الشرطة وغيرها ، ويقطعون الطريق ، ويعتدون على الأنام ، وكل ذلك في إطار السلم والسلام !
أما عن رميهم مخالفيهم بالكفر ، فقد رددوا  مرارا ، وصاحوا : إما عودة مرسي _ وهو يمثل الإسلام _ وإما انقلاب السيسي _ وهو يمثل الردة عن الإسلام !
ووقف بعض خطبائهم يقول : إني أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها .
وقال بعضهم : رأينا جبريل _ عيانا _ معنا في الاعتصام .
وقال البلتاجي ليلة السابع والعشرين من رمضان : سينزل جبريل والملائكة بالرحمة على معتصمي رابعة ، وبالعذاب على معتصمي التحرير !
إلى آخر ما سمعناه ورأيناه من سخف وحماقة وغباء من كبارهم، فضلاً عن صغارهم _ وكلهم في الواقع صغار .
ومما يدعو إلى العجب أيضا ، كثرة دعائهم وندائهم للمعزول ، والدعاء على من عزله ، والتوعد بالثأر له ، والغناء له تارة ، والنياحة عليه أخرى .
وفعلهم هذا ، يقارب فعل الرافضة في نحيبهم على الحسين ، وترديد النداء لصاحب السرداب _ المعدوم _ تعجيلا لخروجه.
وقد شابهوهم أيضا في استعدائهم الكفار على المسلمين.
قال ابن تيمية ( أمر النبي صلى الله عليه وسلم بطاعة الأئمة الموجودين المعلومين ، الذين لهم سلطان يقدرون به على سياسة الناس ، لا بطاعة معدوم ولا مجهول ، ولا من ليس له سلطان ولا قدرة على شيئ أصلاً ) . منهاج السنة [ 1 / 119 ] .
وقال بعد ذلك [ ص 314 ] ( والقدرة على سياسة الناس إما بطاعتهم له ، وإما بقهره لهم ، فمتى صار قادرا على سياستهم بطاعتهم أو بقهره ، فهو ذو سلطان مطاع ، إذا أمر بطاعة الله.
ولهذا قال أحمد : من ولي الخلافة فأجمع عليه الناس ، ورضوا به ، ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة ، وسمي أمير المؤمنين ، فدفع الصدقات إليه جائز، برا كان أو فاجرا ).
ثم ذكر ابن تيمية أن الولاية والسلطان عبارة عن القدرة الحاصلة ، وأنها قد تحصل على وجه يحبه الله ورسوله ، كسلطان الخلفاء الراشدين.
وقد تحصل على وجه فيه معصية ، كسلطان الظالمين .
وقال بعدها  [ ص 325 ]  ( فأهل السنة يقولون : الأمير والإمام والخليفة ، ذو السلطان ، الموجود ، الذي له القدرة على عمل مقصود الولاية ، كما أن إمام الصلاة هو الذي يصلي بالناس ، وهم يأتمون به .
ليس إمام الصلاة من يستحق أن يكون إماما ، وهو لا يصلي بأحد .
والفرق بين الإمام وبين من ينبغي أن يكون هو الإمام ، لا يخفى إلا على الطغام ) .
وقال في [ ص 323 ] ( ولهذا كانت الرافضة ، لما عدلت عن مذهب أهل السنة ، في معاونة أئمة المسلمين ، والاستعانة بهم ، دخلوا في معاونة الكفار والاستعانة بهم ) .
وقال في موضع آخر [ 6 / 200 ] ( ثم مع هذا : الرافضة يعاونون أولئك الكفار ، وينصرونهم على المسلمين ،كما قد شاهده الناس لما دخل هولاكو ملك الكفار الترك ، الشام سنة ثمان وخمسين وستمائة ..
فهذا أمر مشهود من معاونتهم للكفار على المسلمين ، ومن اختيارهم لظهور الكفر وأهله على الإسلام وأهله .
ولو قدر أن المسلمين ظلمة فسقة ، ومظهرون لأنواع من البدع ، لكان العاقل ينظر في خير الخيرين ، وشر الشرين.
ألا ترى أن أهل السنة ، وإن كانوا يقولون في الخوارج والروافض وغيرهما من أهل البدع ما يقولونه ، لكن لا يعاونون الكفار على دينهم ، ولا يختارون ظهور الكفر وأهله على ظهور بدعة دون ذلك ) . انتهى باختصار .

" أعوان الظلمة "
يخلط بعض المنتسبين للعلم بين لزوم الجماعة والإمام ، وبين إعانة الولاة الظلمة على الباطل .
كما قد يخلطون بين الطاعة المقيدة ، وهي الطاعة في المعروف ، وبين الطاعة المطلقة التي لا تحل إلا للمعصوم .
وفي حديث كعب بن عجرة عند النسائي والترمذي < إنه ستكون بعدي أمراء ، من صدقهم بكذبهم ، وأعانهم على ظلمهم ، فليس مني ، ولست منه ، ولا يرد علي الحوض .
ومن لم يصدقهم بكذبهم ، ولم يعنهم على ظلمهم ، فهو مني ، وأنا منه ، وسيرد علي الحوض > .
وفي لفظ آخر عند أحمد من حديث ابن عمر < .. فمن أعانهم على ظلمهم ، وصدقهم بكذبهم ، وغشي أبوابهم .. > . الحديث .
وفي صحيح مسلم < يستعمل عليكم أمراء ، فتعرفون وتنكرون ، فمن أنكر فقد برئ ، ومن كره فقد سلم ، لكن من رضي وتابع > .
وفي حديث آخر عند مسلم < فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل > .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، ويشهد لها إنكار السلف من الصحابة والأئمة على الولاة ، بحسب الاستطاعة.
وقد شرحت ذلك في بحوث سابقة ، منها : مكانة العلماء ، والغلو في الملوك.
فلا ينبغي أن يخلط بين  وجوب اتباع السنة ، و مذهب سلف الأمة ، في ترك الخروج والقتال في الفتنة ، وبين وجوب مناصحة الولاة ، وأنه لا يحل له أن يصدقهم بكذبهم ، ولا أن يداهنهم ، خاصة ولاة هذا الزمان ، فإنهم ولاة جور ، وأكثرهم دعاة على أبواب جهنم ، قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس .
وليس من النصح لهم السعي بالنميمة وكتابة التقارير السرية ، في أهل الدعوة والحسبة ، ولو قدر أن فيهم شيئا من البدع والفسق.
قيل لحذيفة : إن هذا يبلغ الأمراء الحديث عن الناس .
فقال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول < لا يدخل الجنة قتات > . متفق عليه ، واللفظ للترمذي .
وكان الناس يتكلمون في مظالم الولاة ، ويشكونهم إلى الصحابة والأئمة ، فكانوا يأمرونهم بالصبر ، ولا يسلمونهم إلى الولاة ، ولا يفشون سرهم .
ولم يكونوا يمتدحون لهم الولاة ، لا جهرا ، ولا سرا .
والكلام في تقرير هذا الأصل يطول جدا .

" خاتمة جامعة "
إن تواتر النصوص في ترك القتال في الفتنة ، وكف اللسان واليد ، ولزوم الجماعة والولاة ، مع ما يشهد لها من آثار السلف ، والأحداث التي مضت في القرون السابقة ، وما شهدناه في هذا الزمان من شؤم الثورات ، وضررها على البلاد والعباد ، كاف في إظهار الحق .
ومن استمسك بالسنة ، والتزم مذهب سلف الأمة ، كان أحق بإصابة الحق في كل فتنة ونازلة.
ولم يختلف كلامنا منذ بدأت الثورات حتى الآن، وراجع إن شئت البحوث السابقة: "دعاة الفتنة"، "ويؤتي الحكمة"، "حماقة الأخوان".
ومخالفونا ليس عندهم إلا الرأي المحض ، والقياس الفاسد.
وغاية ما عندهم وصف المظالم وشرح الحال.
فيقولون : أما رأيتم ما فعله بشار ؟
وما فعله جيش مصر ؟
كأننا أقررنا هذا أو ذاك ، ونحن نبرأ إلى الله من كل ظالم جبار سفاك .
وقد أنكرت وقوف شيخ الأزهر وحزب النور بجانب الجيش المنقلب ، فإن الصحابة والأئمة لم يقفوا مع يزيد ، ضد الحسين وأهل الحرة ، ولا مع بني مروان والحجاج ضد ابن الزبير ، بل اعتزلوا الجميع ، وأطاعوا الإمام والمتغلب.
ونحن _ على طريقة السلف _ نشفق على العامة أن تنابذ ظالما لا قبل لهم به ، لا في العدد ولا في العدة ، ولهذا نوجه لهم الخطاب والنصيحة ، ولا نقر ما يحصل لهم من الظلم والعدوان ، ولا نعين الظلمة عليهم ، ولا بشطر كلمة.
ثم إنه : لا يكفي في معرفة الحق ، توصيف الحال ومعرفة الواقع والحدث ، بل لا بد من معرفة ما  يجب فعله في الواقع والحدث ، وهذا لا يتأتى إلا بالعلم بالنصوص والآثار .
وقد بوب البخاري بقوله : باب العلم قبل القول والعمل .
ولو تأملت النصوص السابقة في الفتن ، ستجد أن الصحابة قد حرصوا على السؤال فيما يجب فعله عند حدوثها.
قال حذيفة : فكيف أصنع ؟
ثم قال : أرأيت إن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟
وقالوا عن شرار الأئمة : أفلا ننابذهم ؟
وقالوا في تأخير الأمراء للصلاة : كيف نصنع ؟ .. وهكذا .
وبعد ، فقد بقيت مسائل كثيرة تحتاج إلى شرح وتفصيل ، لعلي أفرد لها بحثا آخر ، والحمدلله في البدء والختام ، والصلاة والسلام على خير الأنام .

***********************
وكتب : سمير بن خليل المالكي
جوال 0591114011
مكة المكرمة حرسها الله..
الإثنين ١٠/١١/١٤٣٤هـ