"تناقض الأحزاب"
الحمدلله ، والصلاة والسلام على رسول الله
، وعلى آله وصحبه ومن والاه .
أما بعد ، فإن من غربة الإسلام في هذا الزمان،
وفي كل زمان، التباس الحق بالباطل وقت الفتن، واختلاط الخاثر بالزباد، واشتباه الأمور
الواضحات، وخفاء الدلائل البينات، حتى على بعض مشاهير العلم.
وقد حصلت في صدر الإسلام وقائع وأحداث في
أمور السياسة والدين، اشتبهت على بعض الأعاظم ، فوقعوا في بعض المآثم ، ولم يسلم منها
إلا من عصمه الله.
وقعت فتنة الجمل وصفين، ودخل فيها من دخل،
إلا من عصم منها فاعتزل، وهم كثير من الصحابة، لأن القتال فيهما لم يكن قتالاً محموداً
، بل كان قتال فتنة.
كما قرر ذلك ابن تيمية في مواضع كثيرة من
كتابه منهاج السنة ، ونقل عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة أن علياً ، وإن كان أولى
بالحق من مخالفيه ، إلا أن ترك القتال كان هو الصواب ، ولهذا امتدح النبي صلى الله
عليه وسلم فعل الحسن في الصلح بين الطائفتين ووصفه بالسيادة ، لتنازله لمعاوية عن الخلافة.
ومذهب السلف السكوت عما شجر بين الطرفين
، والاستغفار لهم ، والترضي عليهم أجمعين.
أما عن التفرق في الدين ، فلم يحصل من أحد
من الصحابة شيئ من ذلك ، فقد عصمهم الله من تلك المهالك.
جاء في موعظة النبي صلى الله عليه وسلم
قوله < أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة ، ولو تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه
زبيبة ، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيرًا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين
من بعدي ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور .. >. الحديث
.
فبين قرب حصول الاختلاف ، وكثرته ، وقد
حصل إثر مقتل عثمان ، فنشأت كبرى الفرق : الخوارج ، والشيعة، وحصلت فتنة الهرج والقتل
بالخروج على الولاة ، والتنازع على الخلافة.
فإذا كان هذا الاختلاف الكثير ، في السياسة
والدين ، قد حدث في زمن الصحابة ، فكيف بمن بعدهم ؟
وقد ذكر في الحديث العصمة من التفرق والاختلاف
: بتقوى الله ، والتمسك بالسنة ، والسمع والطاعة
للأئمة ، ولو كره منهم نسب وشكل ، أو كره منهم سيرة وعمل ، كما دلت عليه أحاديث أخرى
كثيرة .
" القعود في الفتنة
"
تواترت أحاديث السمع والطاعة للولاة والأمراء
، وبلغ شأنها مبلغاً عظيماً ، لم يرق لبعض من ينتسب للدعوة والوعظ ، في هذا الزمان
، وضاقت بها صدورهم ، وكتموها عن مجالسهم وخطبهم ، فلما سئلوا عنها طلبوا لها أصنافاً
من التأويلات البعيدة.
فزعم بعضهم اختصاصها بالولاة العدول ، لحديث
< ولو تأمر عليكم عبد يقودكم بكتاب الله >. رواه مسلم.
وزعم بعضهم أنها مقيدة بمن أقام الجهاد
وشرائع الإسلام .
وثرثر بعضهم بمقال ، لا يصدر إلا عن جهال
، فزعم أن حديث حذيفة < ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك > ، خاص بمن يظلم واحداً أو اثنين
من الرعية.
وزعم كبيرهم أن الحديث ضعيف.
قلت
: قد وردت أحاديث كثيرة ترد كل تلك التأويلات المستكرهة.
وأصرحها حديث حذيفة ، الذي جاء فيه
< دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها.
قال حذيفة : فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟
قال : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم > . متفق عليه.
وفي لفظ عند مسلم < يكون أئمة لا يهتدون
بهداي ، ولا يستنون بسنتي ، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس.
قال حذيفة : كيف أصنع يارسول الله؟ قال
: تسمع وتطيع للأمير ، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك ، فاسمع وأطع>.
وقد ذكر النووي في شرح مسلم أن هؤلاء الأمراء
: هم دعاة البدعة والضلالة ، كالخوارج والقرامطة.
وأما عن إقامة الولاة لشرائع الإسلام، كالجهاد
وغيره ، فإن الأحاديث خصت إقامة الصلاة فقط.
فورد في صحيح مسلم < أفلا ننابذهم ؟
قال : لا ما أقاموا فيكم الصلاة > . وفي لفظ < ما صلوا > .
وقد وجد في الولاة في عصر الصحابة والقرون
المفضلة ، أعظم خصال الفسق والظلم والفجور.
حتى الصلاة قد ضيعت ، كما صرح بذلك أنس
، وذلك في زمن بني أمية.
قال أنس < قد صليتم حين تغرب الشمس ،
أفكانت تلك صلاة رسول الله > ؟
وفي لفظ قال < إنكم تصلون الظهر مع المغرب
.. > . رواه أحمد.
ذكره ابن رجب في شرح البخاري [ 3 / 57
] ، وذكر أن الحجاج ربما كان يصلي الجمعة عند غروب الشمس ، فتفوت الناس صلاة العصر
، فكان بعض التابعين يصلي في المسجد الظهر والعصر إيماء ، خوفا من الحجاج.
وساق ابن حجر في الفتح رواية عبدالرزاق
أن عطاء قال : أخر الوليد الجمعة حتى أمسى ، فجئت فصليت الظهر قبل أن أجلس ، ثم صليت
العصر ، وأنا جالس إيماء وهو يخطب.
قال ابن حجر ( وإنما فعل ذلك عطاء خوفا
على نفسه من القتل ).
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك
، فلما سألوه كيف نصنع ؟
قال < تصلون الصلاة لوقتها ، وتصلون
معهم ، وتجعلونها نافلة >.
ووجد في زمن الأئمة بعد ذلك ، من دعا إلى
القول بخلق القرآن ونفي الرؤية ، وهما من أخبث مذاهب المعتزلة.
وقد صرح الإمام أحمد وغيره من الأئمة بكفر
من قال بهما.
ولم يكفروا من دعا إلى ذلك من الولاة ،
وامتحن العلماء به، كالمأمون والمعتصم والواثق ، بل كانوا يعتقدون إمامتهم ، ويحذرون
من منابذتهم.
فإن اعترض معترض بخروج الحسين، وسعيد بن
جبير ، وبخروج محمد بن عبدالله بن الحسن بالمدينة ، وأخيه إبراهيم بالبصرة ، وبخروج
محمد بن نصر .. وغيرهم.
حاججناهم بالنصوص الصريحة في منع الخروج
، وبفعل أكابر الصحابة والتابعين والأئمة ، ممن امتنعوا من ذلك ، بل حذروا منه أشد
تحذير.
وقد ندم أكثر من خرج من الصحابة والسلف
، أو قاتل في الفتنة ، بعد أن رأوا ما حصل من شر و بلاء على الأمة.
وقد استقر مذهب السلف على هذا القول ، وهو
: الكف عن منابذة الولاة ، والصبر عليهم _ ولو جاروا _ وترك القتال في الفتنة ، وهو القتال بين المسلمين
، حتى حكى الإجماع عليه غير واحد ، ودونوه في مصنفات الاعتقاد والسنة ، وجعلوه شعارا
لأهل السنة والجماعة ، وشنعوا على الخروج وأهله ، وجعلوه شعارا لأهل البدعة.
وقد نقموا على أبي حنيفة والحسن بن صالح
وغيرهما ، الخروج بالسيف ، وعدوا ذلك من أشنع بدعهم.
لكنهم اعتذروا عن فعل الصحابة ، وجعلوهم
متأولين ، لما لهم من فضل وسابقة في الدين ، ولأن ذلك قد حصل قبل استقرار مذهب السنة.
ومما يعضد مذهب السلف أيضا ، ورود نصوص
كثيرة ، تحذر من القتال في الفتنة ، منها:
1 _ < لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم
رقاب بعض > . متفق عليه.
2 _ < من حمل علينا السلاح فليس منا
> . متفق عليه.
3 _ < إذا التقى المسلمان بسيفيهما ،
فالقاتل والمقتول في النار > . متفق عليه.
4 _ < ستكون فتنة ، القاعد فيها خير
من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي ، من تشرف لها
تستشرفه ، ومن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به >. متفق عليه.
5 _ < من قاتل تحت راية عمية ، يغضب
لعصبة ، أو يدعو إلى عصبة ، أو ينصر عصبة ،
فقتل ، فقتلة جاهلية > . رواه مسلم.
6 _ < تلك أيام الهرج ، حيث لا يأمن
الرجل جليسه.
قلت
: فما تأمرني إن أدركني ذلك الزمان ؟
قال : تكف لسانك ويدك ، وتكون حلسا من أحلاس
بيتك > . رواه أبوداود.
7 _ < ويل للعرب من شر قد اقترب ، أفلح
من كف يده > . رواه أبوداود.
8 _ < إنها ستكون فتنة تستنظف العرب
، قتلاها في النار ، اللسان فيها أشد من وقع السيف > . رواه أبوداود والترمذي.
9 _ وذكر في حديث أبي ذر في السنن <
.. إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف ، فألق من
طرف ردائك على وجهك ، كي يبوء بإثمه وإثمك > .
وكل هذه النصوص ، وغيرها ، تؤيد مذهب السلف
في ترك الخروج على الأئمة ، وترك القتال في الفتنة.
" الثورات العمية
"
جاء في آخر حديث حذيفة المشهور ، قوله
< أرأيت إن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟
قال : تعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض
بأصل شجرة ، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك > .متفق عليه.
فبين أنه لو فرض خلو الزمان من الجماعة والإمام ( وذلك مدعاة لكثرة
الفرق السياسية ) ، فالواجب اعتزال تلك الفرق كلها، دون تخصيص.
وقد نبتت نابتة في هذا العصر ، وأنشأت حزبا
دعويا سياسيا ، تفرخ منه فرق وأحزاب ، أظهروا السنة ( وهم بين مقل منها ومكثر ، بحسب منهج الحزب ) ، زعموا أنهم يسعون إلى
إقامة خلافة راشدة على منهاج النبوة.
وقد تبنوا الخروج على أئمة الجور ، ومنازعتهم
الولاية.
فلما حصلت الثورات العربية ، فرحوا بها
، وقام خطباؤهم ووعاظهم بإشعال فتيل الفتنة ، واغتر بهم جموع كثيرة من المنتسبين للعلم
، ولم يلتفتوا للنصوص ، ولا لأقوال السلف ، بل ضربوا بها عرض الحائط ، وعارضوها بأرائهم
وآراء شيوخهم من رؤساء الأحزاب.
وحرفوا نصوص الجهاد ، وأنزلوها على قتال
المسلمين ، في تونس واليمن وليبيا ومصر والشام .
فإن قلت لهم : إن هذه الثورات إنما ابتدأها
الغوغاء ، بخطة مكر وخديعة من الأعداء ، ثم انجر وراءها العوام .
قالوا : أما رأيت القتل والاغتصاب والدمار
؟ أما رأيت خراب البلاد ، وهلاك العباد ؟
قلنا : وهل بدأ الرؤساء بهذه الجرائم ،
من القتل والاغتصاب والعظائم ؟
قالوا : الولاة كفار ، إما باعتقاد ، وإما
بعمل ، أو بهما معا ، كرئيس الشام .
قلنا : من خرج عليهم ابتداء لم يزعم ذلك
، وأنتم تقرون بذلك ، فإنهم كانوا ثوار خبز ، أو حرية ، ثم صاروا طلاب ثأر وحمية.
وقد خالفتم الثوار في النية ، فقاتلوا بنية
الخبز والحرية ، وثورتموه أنتم قتالاً بنية خلع الكافر ، أو دفع الصائل، فتعددت الرايات،
وتباينت النيات.
ثم : ما الذي أستفاده الناس من كل تلك الثورات
العمية ؟
دماء معصومة أريقت ، وحرمات قد انتهكت واغتصبت
، وديار خربت ، وجيوش للإسلام أضعفت ودمرت .
قالوا : الجهاد واجب في سوريا لأمرين :
كفر بشار ، لأنه نصيري بعثي .
ونصرة المظلومين من شعبه .
قلنا : هل كان كافرا منذ بدء ولايته ، أم
طرأ عليه الكفر بعدها ؟
فإن قالوا : بل لم يزل كذلك ، هو وأبوه
من قبل.
قلنا : التكفير المطلق للطائفة ، أو للمذهب
، أمر ، وتكفير المعين أمر آخر.
وهل سمعتموه ، أو رأيتموه ، أشهر ملة الكفر
؟
والذي رآه الناس بيقين ، أنه : يصلي ويصوم
، كما يفعل أهل السنة . ويأتم في الجمعة والعيد بإمام من أهل السنة ، ويسند الإفتاء
والقضاء ، والوعظ والإرشاد ، لعلماء السنة.
فإن قيل : إنما يفعل ذلك نفاقا.
قلنا : والمنافقون يعاملون بالظاهر ، والله
يتولى السرائر.
وقد وجد أكبر المنافقين في زمن النبوة ،
فعصمت دماؤهم وأموالهم ، هذا وهم كانوا إذ ذاك رعية لا ولاة.
ثم : إن رئيسكم القرضاوي لا يراه كافرا
، وقد زاره وأثنى عليه قبل الثورة.
ومن خرج عليه وقاتله لا يرى كفره ، بل في
قادة الثوار من هو نصراني ، وفي الجيش الحر من هو شر من بشار.
وقد استمعت للعرعور وهو يصيح ويولول ، محذرا
من الخروج في سوريا ، ثم انقلب بعد أشهر ، فصار من أبواق الثوار.
وقد كشفت هذه الثورات العمية ، تناقض الأحزاب
والفرق السياسية .
فكما فعل القرضاوي في سوريا من قبل ومن
بعد ، من تناقض وتناكد ، فعل مثله سلمان العودة في تونس وليبيا ، مديح وثناء على النظام
، ثم الحض على الثورة عليه .
وكذلك فعل محمد حسان والعريفي مع رئيس ليبيا
، وعائض القرني مع الرئيس اليمني .
وهم مضطربون في تعليل الثورات ، فتارة يزعمون
أن الكفر هو الباعث لها .
فإذا قلت لهم : واليمن ومصر ؟
قالوا : ظلم من الولاة ، ثار من أجله طلاب
الحرية .
فإذا قلت لهم : والانقلاب على مرسي ؟
قالوا : ظلمه الجيش ، إما يرجع ، أو تفنى
دونه الرعية !
وقد تناقضوا في كل شيئ ، حتى زعم ناصر العمر
أن المظاهرات مباحة إلا في السعودية !
وزاد عليه العرعور: وكذا في سورية.
وقال آخرون : إلا في مصر ، لكي لا يستغلها
الأقباط.
وقيل : إلا في اليمن ، لأن العامة هناك
أهل حرب وحملة سلاح .
وكلهم يبتغي دفع البلاء عن وطنه .
والمقصود : أن اختلافهم في الفتاوى واضطرابهم
في التعليل والتحليل ، أظهر جهلهم ومخالفتهم للنصوص ، ولما استقر عليه مذهب السلف
.
" الاستنصار بالكفار
"
ومن تناقض شيوخ الفتنة والأحزاب ، استنصارهم
بجند الصليب في ثوراتهم في ليبيا والشام ، واستعداؤهم على أهل الإسلام.
ولا أعلم لهم في ذلك شبهة دليل ، سوى الرأي
الكاسد ، والقياس الفاسد.
فإن زعموا الاضطرار ، قلنا : ما الذي أوجب
الخروج والثورة ابتداء ؟
أليس بزعمكم : كفر الولاة وجورهم؟
فكيف تستعينون بأعدى الأعداء من الكفار
، على ولاة اختلف في كفرهم ؟
وأما الظلم والجور ، فما رأينا أظلم ولا
أطغى من حزب الصليب على أهل الإسلام .
ثم : متى كانت القدرة على خلع الولاة ،
تعني القدرة بالغير ، بأن يستعان بجيش العدو الكافر الأصلي؟
وانظر كيف تناقضوا ، فحين اجتاح صدام البعثي
بلاداً ، وهدد أخرى ، واستعين بالناتو عليه ، أرعد وأزبد خطباؤهم ، وأشهروا النكير
على ذلك الفعل ، وحصلت بسببه فتنة في بلاد الحرمين ، وانقسم المشايخ والدعاة، بعد أن
كانوا مجتمعين ، وأوذي جمع من الوعاظ والصالحين.
ثم : هاهم الآن ، يؤزون الثوار ، ويستعينون
بالكفار ، ويفرحون باحتلال ليبيا ، ويستبشرون
بتهديد سوريا .
وإخوانهم في مصر يستحثون أمريكا لضرب الجيش
، وإعادة المعزول !
فأي نصر للإسلام ، تأملونه من عباد الصليب
، يا أولي الأفهام ؟
المستجير بعمرو عند
كربته
كالمستجير من الرمضاء بالنار
ثم : أين ذهب استدلالكم بآيات التولي في
المائدة ، وحديث < إنا لا نستعين بمشرك > ، وقد كنتم ترددونها من قبل في خطبكم
ودروسكم ، وأما اليوم فلا نسمع منها حرفا !
ثم : إنكم لم تصنعوا شيئا سوى أنكم أسلمتم
العامة أولا : لبطش جبار ظالم ، فنكل واغتصب وقتل ، حتى إذا أثخن فيهم ، أغريتم حزب
الصليب ليجهز على البقية.
هذا وأنتم على يقين، بأنهم سيفتكون بالطرفين
: جيش النظام ، وراياتكم العمّيّة.
" الاعتصام السلمي "
استولى قادة الجيش المصري على الحكم ، وعزلوا
الرئيس المنتخب ، فصارت لهم ، بالغلبة والقهر ، ولاية على أهل مصر.
وقد حكى الإجماع على ذلك ابن حجر ، كما
ذكرناه في بحثنا السابق "حماقة الإخوان" .
ولا فرق بين الغلبة بالجيش والقوة ، وبين
الغلبة بكثرة الأصوات ، فكلاهما يجب له السمع والطاعة في المعروف .
ومن يقول : بأن المتغلب بالقوة والانقلاب
العسكري ظالم ، فلا ولاية له ، ولا سمع ولا طاعة ، فإنه جاهل مكابر ، فإن كثيرا من
الدول والممالك إنما قامت بالقهر والغلبة.
وأمير قطر انقلب على أبيه وعزله ، أترون
الولاية والطاعة تكون للعازل أم للمعزول ؟
ولماذا أقر كل قادة الأحزاب ، انقلاب قطر
، وعارضوه في مصر ؟
ولماذا أقر قادة الإخوان والأحزاب الانقلابات
المعاصرة ، بل شاركوا في بعضها _ كالانقلاب الناصري في مصر _ وأبوا ذلك الآن ، وأخرجوا
النساء والأطفال وحشدوا الكبار والصغار ، في مظاهرات زعموا أنها سلمية ، ولم تكن قط
كذلك ؟
فقد صرح كبارهم مرارا ، بتحدي الجيش ، وتوعدوهم
بالثأر للمعزول ، الذي صار في حكم المعدوم .
وتعهد البلتاجي : بوقف العمليات في سيناء
، بشرط رجوع مرسي ، أهكذا يكون الاعتصام السلمي ؟
وكرر صفوت حجازي التهديد والوعيد ، حتى
قال : إن هناك تصعيدا كبيرا ، لا يخطر على البال ، سيتم ، إن لم يرجع مرسي للحكم .
وردد هو ، ومن معه ، عبارات الثأر والحمية
، وتغنوا بها ، وصرحوا بإراقة الدم في سبيل عودة " الشرعية " !
ثم هددوا بتدخل الجيش الأمريكي ، وأخرجوا
الأطفال حاملين أكفانهم ، وكل ذلك تحت شعار السلمية !
ثم صاروا هذه الأيام يحرقون مقرات الشرطة
وغيرها ، ويقطعون الطريق ، ويعتدون على الأنام ، وكل ذلك في إطار السلم والسلام !
أما عن رميهم مخالفيهم بالكفر ، فقد رددوا مرارا ، وصاحوا : إما عودة مرسي _ وهو يمثل الإسلام
_ وإما انقلاب السيسي _ وهو يمثل الردة عن الإسلام !
ووقف بعض خطبائهم يقول : إني أرى رؤوسا
قد أينعت وحان قطافها .
وقال بعضهم : رأينا جبريل _ عيانا _ معنا
في الاعتصام .
وقال البلتاجي ليلة السابع والعشرين من
رمضان : سينزل جبريل والملائكة بالرحمة على معتصمي رابعة ، وبالعذاب على معتصمي التحرير
!
إلى آخر ما سمعناه ورأيناه من سخف وحماقة
وغباء من كبارهم، فضلاً عن صغارهم _ وكلهم في الواقع صغار .
ومما يدعو إلى العجب أيضا ، كثرة دعائهم
وندائهم للمعزول ، والدعاء على من عزله ، والتوعد بالثأر له ، والغناء له تارة ، والنياحة
عليه أخرى .
وفعلهم هذا ، يقارب فعل الرافضة في نحيبهم
على الحسين ، وترديد النداء لصاحب السرداب _ المعدوم _ تعجيلا لخروجه.
وقد شابهوهم أيضا في استعدائهم الكفار على
المسلمين.
قال ابن تيمية ( أمر النبي صلى الله عليه
وسلم بطاعة الأئمة الموجودين المعلومين ، الذين لهم سلطان يقدرون به على سياسة الناس
، لا بطاعة معدوم ولا مجهول ، ولا من ليس له سلطان ولا قدرة على شيئ أصلاً ) . منهاج
السنة [ 1 / 119 ] .
وقال بعد ذلك [ ص 314 ] ( والقدرة على سياسة
الناس إما بطاعتهم له ، وإما بقهره لهم ، فمتى صار قادرا على سياستهم بطاعتهم أو بقهره
، فهو ذو سلطان مطاع ، إذا أمر بطاعة الله.
ولهذا قال أحمد : من ولي الخلافة فأجمع
عليه الناس ، ورضوا به ، ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة ، وسمي أمير المؤمنين ، فدفع
الصدقات إليه جائز، برا كان أو فاجرا ).
ثم ذكر ابن تيمية أن الولاية والسلطان عبارة
عن القدرة الحاصلة ، وأنها قد تحصل على وجه يحبه الله ورسوله ، كسلطان الخلفاء الراشدين.
وقد تحصل على وجه فيه معصية ، كسلطان الظالمين
.
وقال بعدها [ ص 325 ]
( فأهل السنة يقولون : الأمير والإمام والخليفة ، ذو السلطان ، الموجود ، الذي
له القدرة على عمل مقصود الولاية ، كما أن إمام الصلاة هو الذي يصلي بالناس ، وهم يأتمون
به .
ليس إمام الصلاة من يستحق أن يكون إماما
، وهو لا يصلي بأحد .
والفرق بين الإمام وبين من ينبغي أن يكون
هو الإمام ، لا يخفى إلا على الطغام ) .
وقال في [ ص 323 ] ( ولهذا كانت الرافضة
، لما عدلت عن مذهب أهل السنة ، في معاونة أئمة المسلمين ، والاستعانة بهم ، دخلوا
في معاونة الكفار والاستعانة بهم ) .
وقال في موضع آخر [ 6 / 200 ] ( ثم مع هذا
: الرافضة يعاونون أولئك الكفار ، وينصرونهم على المسلمين ،كما قد شاهده الناس لما
دخل هولاكو ملك الكفار الترك ، الشام سنة ثمان وخمسين وستمائة ..
فهذا أمر مشهود من معاونتهم للكفار على
المسلمين ، ومن اختيارهم لظهور الكفر وأهله على الإسلام وأهله .
ولو قدر أن المسلمين ظلمة فسقة ، ومظهرون
لأنواع من البدع ، لكان العاقل ينظر في خير الخيرين ، وشر الشرين.
ألا ترى أن أهل السنة ، وإن كانوا يقولون
في الخوارج والروافض وغيرهما من أهل البدع ما يقولونه ، لكن لا يعاونون الكفار على
دينهم ، ولا يختارون ظهور الكفر وأهله على ظهور بدعة دون ذلك ) . انتهى باختصار .
" أعوان الظلمة "
يخلط بعض المنتسبين للعلم بين لزوم الجماعة
والإمام ، وبين إعانة الولاة الظلمة على الباطل .
كما قد يخلطون بين الطاعة المقيدة ، وهي
الطاعة في المعروف ، وبين الطاعة المطلقة التي لا تحل إلا للمعصوم .
وفي حديث كعب بن عجرة عند النسائي والترمذي
< إنه ستكون بعدي أمراء ، من صدقهم بكذبهم ، وأعانهم على ظلمهم ، فليس مني ، ولست
منه ، ولا يرد علي الحوض .
ومن لم يصدقهم بكذبهم ، ولم يعنهم على ظلمهم
، فهو مني ، وأنا منه ، وسيرد علي الحوض > .
وفي لفظ آخر عند أحمد من حديث ابن عمر
< .. فمن أعانهم على ظلمهم ، وصدقهم بكذبهم ، وغشي أبوابهم .. > . الحديث .
وفي صحيح مسلم < يستعمل عليكم أمراء
، فتعرفون وتنكرون ، فمن أنكر فقد برئ ، ومن كره فقد سلم ، لكن من رضي وتابع >
.
وفي حديث آخر عند مسلم < فمن جاهدهم
بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس وراء
ذلك من الإيمان حبة خردل > .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، ويشهد
لها إنكار السلف من الصحابة والأئمة على الولاة ، بحسب الاستطاعة.
وقد شرحت ذلك في بحوث سابقة ، منها : مكانة
العلماء ، والغلو في الملوك.
فلا ينبغي أن يخلط بين وجوب اتباع السنة ، و مذهب سلف الأمة ، في ترك الخروج
والقتال في الفتنة ، وبين وجوب مناصحة الولاة ، وأنه لا يحل له أن يصدقهم بكذبهم ،
ولا أن يداهنهم ، خاصة ولاة هذا الزمان ، فإنهم ولاة جور ، وأكثرهم دعاة على أبواب
جهنم ، قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس .
وليس من النصح لهم السعي بالنميمة وكتابة
التقارير السرية ، في أهل الدعوة والحسبة ، ولو قدر أن فيهم شيئا من البدع والفسق.
قيل لحذيفة : إن هذا يبلغ الأمراء الحديث
عن الناس .
فقال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول
< لا يدخل الجنة قتات > . متفق عليه ، واللفظ للترمذي .
وكان الناس يتكلمون في مظالم الولاة ، ويشكونهم
إلى الصحابة والأئمة ، فكانوا يأمرونهم بالصبر ، ولا يسلمونهم إلى الولاة ، ولا يفشون
سرهم .
ولم يكونوا يمتدحون لهم الولاة ، لا جهرا
، ولا سرا .
والكلام في تقرير هذا الأصل يطول جدا .
" خاتمة جامعة
"
إن تواتر النصوص في ترك القتال في الفتنة
، وكف اللسان واليد ، ولزوم الجماعة والولاة ، مع ما يشهد لها من آثار السلف ، والأحداث
التي مضت في القرون السابقة ، وما شهدناه في هذا الزمان من شؤم الثورات ، وضررها على
البلاد والعباد ، كاف في إظهار الحق .
ومن استمسك بالسنة ، والتزم مذهب سلف الأمة
، كان أحق بإصابة الحق في كل فتنة ونازلة.
ولم يختلف كلامنا منذ بدأت الثورات حتى
الآن، وراجع إن شئت البحوث السابقة: "دعاة الفتنة"، "ويؤتي الحكمة"،
"حماقة الأخوان".
ومخالفونا ليس عندهم إلا الرأي المحض ،
والقياس الفاسد.
وغاية ما عندهم وصف المظالم وشرح الحال.
فيقولون : أما رأيتم ما فعله بشار ؟
وما فعله جيش مصر ؟
كأننا أقررنا هذا أو ذاك ، ونحن نبرأ إلى
الله من كل ظالم جبار سفاك .
وقد أنكرت وقوف شيخ الأزهر وحزب النور بجانب
الجيش المنقلب ، فإن الصحابة والأئمة لم يقفوا مع يزيد ، ضد الحسين وأهل الحرة ، ولا
مع بني مروان والحجاج ضد ابن الزبير ، بل اعتزلوا الجميع ، وأطاعوا الإمام والمتغلب.
ونحن _ على طريقة السلف _ نشفق على العامة
أن تنابذ ظالما لا قبل لهم به ، لا في العدد ولا في العدة ، ولهذا نوجه لهم الخطاب
والنصيحة ، ولا نقر ما يحصل لهم من الظلم والعدوان ، ولا نعين الظلمة عليهم ، ولا بشطر
كلمة.
ثم إنه : لا يكفي في معرفة الحق ، توصيف
الحال ومعرفة الواقع والحدث ، بل لا بد من معرفة ما يجب فعله في الواقع والحدث ، وهذا لا يتأتى إلا
بالعلم بالنصوص والآثار .
وقد بوب البخاري بقوله : باب العلم قبل
القول والعمل .
ولو تأملت النصوص السابقة في الفتن ، ستجد
أن الصحابة قد حرصوا على السؤال فيما يجب فعله عند حدوثها.
قال حذيفة : فكيف أصنع ؟
ثم قال : أرأيت إن لم يكن لهم جماعة ولا
إمام ؟
وقالوا عن شرار الأئمة : أفلا ننابذهم ؟
وقالوا في تأخير الأمراء للصلاة : كيف نصنع
؟ .. وهكذا .
وبعد ، فقد بقيت مسائل كثيرة تحتاج إلى
شرح وتفصيل ، لعلي أفرد لها بحثا آخر ، والحمدلله في البدء والختام ، والصلاة والسلام
على خير الأنام .
***********************
وكتب : سمير بن
خليل المالكي
جوال
0591114011
مكة المكرمة حرسها
الله..
الإثنين
١٠/١١/١٤٣٤هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق