حصائد
الفتن
الحمد
لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن
استن بسنته، واهتدى بهداه.
أما
بعد، فقد مرت بضع سنوات من الفتن العمياء، سفكت فيها الدماء بدون عد، وهتكت فيها الأعراض
بلا حد، وضيعت الأموال بلا طائل، وعدنا من حيث بدأنا، بل عدنا بأسوأ حال مما عليه
كنا.
وما
كسبنا من تلك الفوضى العارمة شيئاً، سوى أن خربنا بلادنا وبيوتنا، ودمرنا جيوشنا
بأيدينا.
أطعنا
شيوخ الفتنة، الذين ما فتئوا يصيحون على المنابر والمحافل: اخرجوا _ تظاهروا _
ثوروا _ اقتلوا _ خربوا .. ثم لما انجلى عن الفتنة بعض الغبار،كانوا أول من تبرأ
من الثوار.
وبعضهم
اعترف بخطئه، ولكن: هل إلى مرد للأمن والأمان، من سبيل؟
وأنكر
بعضهم أن يكون قد حرض أحداً على القتال، وفضحه التسجيل.
بل
طالب بمحاكمة من زج باسمه في قائمة المحرضين! وهي شنشنة نعرفها من أخزم.
وكيف
ينكر ذلك، وهو لم يفتأ يرعد ويزبد على المنبر، يحرض الناس على الثورات والمظاهرات،
ويؤزهم للخروج على الطغاة، ويلفق القصص والخرافات، حتى زعم أن الملائكة نزلت
لإسعاف الجرحى؟
(ولا
أدري لماذا اقتصر جهاد الملائكة على ذلك فقط)؟
أليس
هذا تحريضاً صريحاً للقتال؟
ثم
لم يكتف بالجعجعة هنا، بل نقلها إلى مصر.
فبعد
أن استمالهم بخطبتين عن فضائلها، والوصية بأقباطها، لم يلبث أن كشف اللثام، فخطب
يدعو إلى النفير إلى الشام، وكان من ضمن المنظرين لـــ "مؤتمر الإخوان"،
الذي اجتمعوا فيه بقضهم وقضيضهم، لإعلان الجهاد في الشام، لإحكام القبضة على سائر
بلاد الإسلام.
وانتظرت
جماهير المؤتمر الغفيرة، أن يسبقهم شيوخ الفتنة إلى الميدان، فما وجدوهم إلا
مسارعين إلى موائد الطعام!
ونفر
بعضهم عقب المؤتمر للجهاد في الغرب، بالسياحة والاستجمام!
وفي
لقاء تلفزيوني شهير: سئل الشيخ عن صلته بالإخوان: فتنصل منهم.
قلنا:
نجوت من هذه بسلام! وأبى الله إلا أن يفضح كذبه على الملأ، حين سئل عن استقبال
رئيس وزراء الإخوان له، فأنكر (وهو يعلم أنه يكذب)، ففضحوه: بالأفلام!
ولم
تكن تلك أول كذباته وخرطقاته، فالشيخ قد استمرأ على هذا من قديم _ ومن لا يذكر
فتواه في "القاعدة"، حين خالفها بعد أيام؟
وتحريفه
لحديث حذيفة "وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك" مشهور، وقد رد عليه الشيخ
الفوزان، كما أنكر عليه مهزلة (سورة التفاح) !
ولم
يصنع صاحبه الطريفي شيئاً بثنائه عليه، معارضاً فتوى الفوزان، فإن ذلك الثناء لم
يدفع عن صاحبه وصمة الهوى والتحريف، كما يظن، بل فضح من يزعم أنه ينتصر للسنة
والحديث.
وصدق
ابن المبارك حين قال "من خفيت علينا بدعته، لم تخف علينا ألفته".
ودعاة
الأحزاب كلهم على هذا المشرب، يتكلم أحدهم أحيانا بالعلم والحكمة، ويظهر انتصاراً
للحق والسنة، حتى إذا جاء الكلام عن فضايح الحزب، أخذته الحمية، وترك البحث
والعلم، وجعل يتمحل الأعذار، ويحرف النصوص والآثار.
{والله
ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين}.
وليس
بقية "الإخوان" بأحسن حالاً من فلان، فشيخهم سلمان، قد باع المشيخة من
زمان، وأبدلها بالتفكير!
فصار
الفكر وحده قائده، ومؤتمر النهضة المختلط، من نتاج ذلك التفكير المنفلت!
ولن
أطيل في ذكر بلايا تلك الزمرة التائهة من شيوخ الفتنة، فإنهم قد فضحتهم ألسنتهم
وأقلامهم، وأظهرت الفتن عوارهم.
"
عناد .. وإصرار "
مضت
ثورات العرب _ وما انقضت _ وخلفت الدمار والخراب في العباد والبلاد، وخاض فيها
كثير من الشيوخ والدعاة، وركبوا موجتها، مخالفين بذلك النصوص المحكمة المتواترة
التي حذرت من الدخول في الفتنة.
وأصرحها:
حديث "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض". متفق عليه.
والأحاديث
في هذا المعنى كثيرة، في النهي عن قتال المسلمين بعضهم بعضاً، حتى جعل القاتل
والمقتول في النار.
وحديث
"ستكون فتن: القاعد فيها خيرٌ من القائم، والقائم فيها خيرٌ من الماشي،
والماشي فيها خيرٌ من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد منها ملجأ أو معاذاً فليعذ
به". متفق عليه.
قوله
"من تشرف لها" : أي : تطلع لها، وتعرض لها، ولم يعرض عنها.
ففيه
الحث على اجتنابها، والمباعدة عنها ما أمكن.
وأحاديث
الصبر على جور الولاة، متواترة، قد تنوعت ألفاظها، حتى شملت منكرات الولاة في جل
أمور الدين.
ومنها:
حديث حذيفة المتفق عليه، الذي وصف فيه صلى الله عليه وسلم ولاة الجور، فقال
"دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها".
وفي
لفظ لمسلم قال "قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس".
وهذا
غاية في الشر والخبث، وليس بعد هذا الشر، إلا الكفر البواح، الذي أبيح فيه الخروج،
وقيده أهل العلم بقيود معروفة.
قلت:
ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر حذيفة بأن يلزم جماعة المسلمين وإمامهم.
وأكد
ذلك بقوله "تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع". لفظ مسلم.
ولا
يكاد يخرج رؤساء العرب في زماننا هذا، عن هذا الوصف، ومنهم المقل والمكثر.
وربما
لبس بعض دعاة الفتنة والخروج، على العوام، واحتجوا بفعل بعض الصحابة والسلف،
كالحسين رضي الله عنه.
قلت:
ليس بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم قول.
وليس
عندنا حديث واحد في المسألة، بل عشرات الأحاديث، ولولا خوف الإطالة لسردناها.
ومن
احتج بفعل بعض الصحابة والسلف، احتج عليه بآثار من خالفه وعارضه منهم، وهم الأكثر.
واحتج
عليه أيضاً باتفاق كلمة السلف بعد ذلك على ترك الخروج، حتى عد إجماعاً لأهل السنة،
مسطراً في كتب الاعتقاد والسنة، وصار ما عداه، مذهباً لأهل البدع والأهواء.
لقد
عاش أئمة السلف والخلف في أزمنة مختلفة، في ظل ممالك وإمارات جائرة، جمعت كل ما
يمكن تصوره من مخالفات في الدين والملة.
فحكمتهم
الخوارج، والمعتزلة، والقرامطة، والرافضة، والتتار، ثم الممالك المعاصرة
العلمانية.
ومع
ذلك: فإن مذهب الأئمة، لم يتغير في حكم الخروج على تلك الممالك، بل اتفقوا على
كلمة واحدة: لزوم الجماعة، وطاعة الإمام في غير معصية، وترك الخروج عليه.
صرح
بهذا المذهب قبل المائتين: ابن المبارك والأوزاعي والسفيانان.
وقبل
الثلاثمائة: أحمد وإسحق وأبوحاتم وأبو زرعة، ثم الخلال وحرب الكرماني وابن أبي
عاصم.
وقبل
الأربعمائة: الآجري وابن بطة وابن منده.
وقبل
الخمسمائة: اللالكائي.
وقبل
الستمائة: البغوي.
ثم
صنف شيخ الإسلام في القرن الثامن جملة مصنفات في الاعتقاد، سار فيها على سنن
السلف، وتبعه تلامذته على ذلك، وما بدلوا حرفاً مما قاله السابقون.
ثم
جاء إمام الدعوة المعاصرة ابن عبدالوهاب، فصنف عشرات الرسائل على سنن الأولين.
وتبعه
على ذلك أئمة الدعوة، ثم تبعهم تلامذتهم: ابن إبراهيم وابن حميد وابن باز وابن
عثيمين.
ولم
يتغير قولهم في الخروج والفتنة، مع وجود المنكرات الظاهرة من قبل الولاة.
أليس
في هذا دليلٌ قاطع، وحجةٌ بينة، على خطأ وضلال من خالفهم من دعاة الفتنة؟
فإذا
جمعنا إلى ذلك أيضاً، ما كتبه أئمة الفقه، والتفسير، والحديث، على اختلاف الأزمنة
والدول، فمن بقي ينظر في خلافه بعد اتفاق كل هؤلاء، أيها العقلاء؟
وإنك
لتعجب: حين ينشط مثل الطريفي في مسألة حديثية أو فقهية فروعية، فيحشد النصوص
والأقوال، بحماسةٍ وهمةٍ متقدة، كما فعل في مسألة الاختلاط، في رده على الوزير،
(وأصاب في ذلك).
ثم
لما جاءت فتنة الدمار العربي، ركب موجتها، وأبى إلا أن يكون من رؤوسها، وترك
النصوص والآثار، وكتم أكثرها، وحرف بعضها، ولم ينقل نصاً واحداً عن السلف، بل أصر
على الانتصار للثورة والثوار، بالرأي المحض، حتى إنه قد وصفها بــــ "الثورات
المباركة" في تونس وليبيا ومصر والشام واليمن.
ولا
أدري كيف يوصف المنكر والدمار والخراب بالبركة ؟ ثم ناصر الإخوان بقوة، حتى بعد
ظهور عوارهم، وفساد دولتهم، وذهاب ريحهم، وحتى بعد ما رأى ما أصاب عامة الناس بسبب
حماقتهم من بلاء، وما أصاب الحمقى أنفسهم من شقاء، فظل يحضهم على الفتنة ويشعل
فتيلها.
ففي
لقاء فضائي سئل الطريفي عن الرئيس السيسي: هل له طاعة بحكم التغلب ؟ فأنكر أن يكون
له طاعة وولاية، بل جعله ظالماً مفسداً، محارباً لدين الله، وأنكر أن تكون المسألة
سياسية: غالباً ومغلوباً، بل جعلها كفراً و إيماناً.
وأطال
بكلام سمج، لا خطام له، ثم ختمه بقوله "ينبغي _ بل يجب _ أن تعود الأمور إلى
نصابها" !
(أي:
يجب أن يعود الإخوان ومرسي للحكم) !
ومؤدى
هذا التحريض: زيادة في القتل، وسفك الدم، وإشاعة الفساد في العباد والبلاد.
فأي
عاقل يقول بهذا، بعد أن رأى حصائد وآثار تلك الثورات في مصر والشام، وفي كل بلاد
الإسلام ؟
"
داعش والنصرة "
فرخت
الثورات الحمقاء طوائف وفرقاً متناحرة، كشأن كل ثورة عمية، تبدأ بفرقة واثنتين: ثم
ما تلبث أن تتفرق إلى عشرين. وليس البحث في: أيها أصوب، فإنه من البدهي أن يكون في
كل خلاف، من هو للحق أقرب.
إنما
النظر هنا في: من أنشأ تلك الفرق والأحزاب؟ وما أهدافها؟ وما منهجها؟ وما الموقف
منها؟
وسأترك
الجواب عن الأسئلة الأولى، فليجب عنها من دعا إلى الخروج والثورة من أول يوم.
ونحن
ما دعونا الناس إلى شيء من ذلك، بل لم نزل نحذرهم من مغبة ذلك من قديم، ونقتدي
بأئمتنا، ونقول بما قالوا، ونسكت عما عنه سكتوا.
أما
الموقف الذي أراه من الطوائف المقاتلة، فيختلف بحسب الحال.
1/
فأي طائفة مسلمة، ولو تلبست بشيء من المعاصي والبدع، تقاتل الكفار الأصليين، نصرة
للدين، ودفعاً عن حوزة الإسلام وحرماته ودياره، تبتغي وجه الله بذلك، فهي طائفةٌ
مجاهدة، مالم تتعد إلى سفك دم معصوم.
وهذا
ظاهر في قتال اليهود في فلسطين، وقتال البوذيين في بورما، وقتال الهندوس في كشمير،
ونحو ذلك.
فهو
قتال دفع، لعدو كافر صائل.
2/
أما الجهاد الذي قد يشتبه، ويحتاج إلى فتوى معتبرة : فهو جهاد الطلب، فهذا لا
ينبغي الخوض فيه، إلا لمن هو أهله من ولاة أمر المسلمين.
3/
وأما القتال في بلاد المسلمين لإزاحة ظالم، كالثورات العربية اليوم، فهذا قتال فتنة،
كما دلت عليه النصوص، وهو منازعة على رئاسة وملك.
4/
والذي رأيناه، من حال داعش والنصرة، أنهما يقاتلان المسلمين في بلاد الإسلام، قد
تركا قتال اليهود في فلسطين، والبوذيين في بورما، وجيشوا جيوشهما في سوريا وغيرها.
وهذا
كاف في الحكم بضلالهما.
كيف
وقد رأيناهما قد تناحرا وتقاتلا، والحرب سجال بينهما، وكل من الفرقتين تزعم
أحقيتها بالإمارة !
هذا
مبلغ علمي، ولا أزعم أنني أحطت بما لديهما من حقائق، فإن الإعلام أكثره كذب وزور.
وأمور
السياسة الشائكة مردها إلى أولي الأمر، فهم أحق بالفتيا فيها، والله تعالى أعلم.
"
الفرق السياسية "
كثيراً
ما يرد سؤال عن فرق وأحزاب، وأظهرها اليوم: فرقة "الإخوان المسلمين"،
فيقال: هل هي من الثنتين والسبعين الضالة، أم هي من الفرقة الناجية؟
والجواب:
من المعلوم أنها فرقة لا تلتزم مذهباً عقدياً معيناً يجتمع عليه أتباعها، كما تفعل
الفرق التي ضلت في مسائل الاعتقاد في الإيمان والصفات والقدر، ونحوها.
بل
هي فرقة أساسها التجمع السياسي لقلب أنظمة الحكم المعاصرة، فهي دولة باطنية، لها
أمير (أو أمراء) وتنظيم، وبيعة، كما هو معلوم لدى العامة.
فكيف
يحكم عليها ؟
الجواب:
أن النهي عن التفرق في الدين، ليس محصوراً في مسائل الاعتقاد، بل نصوص الوحي تشمل
من خرج عن الإمام والجماعة.
فنحن
لا نبدع هذه الفرق السياسية لكونها انتحلت مذاهب عقدية مخالفة، بل نبدعها لأنها
فارقت جماعة المسلمين وإمامهم. وقول الله تعالى {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا
تفرقوا} عام في كل تفرق، عقدي أو سياسي.
قال
ابن كثير "أمرهم بالجماعة، ونهاهم عن التفرقة.
وقد
وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والائتلاف".
انتهى.
قال
سمير:
وفسر حبل الله بالجماعة، فالنهي عن التفرق إذن يعم كل فرقة في الدين والجماعة.
والأحاديث
تؤيد هذا : كقوله صلى الله عليه وسلم (ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل
لله، ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم).
رواه الترمذي.
فجعل
الجماعة واحدة، وهي التي يلي أمرها إمام المسلمين.
وجعل
من يلتزم بها _ مع بقية الخصال _ معصوماً قلبه من الغل، ومحاطاً بسياج يمنعه من
الزلل، فهو في ظل رحمة الله بالأمة المجتمعة، لأن دعوتهم _ أي دعوة الإسلام _ تجمع
شملهم، وتلم شعثهم.
والأحاديث
الأخرى تدل على هذا المعنى أيضا.
كحديث
العرباض المشهور: فإنه أمرهم بتقوى الله أولاً، ثم ثنى بالسمع والطاعة ولو لعبد
حبشي، وذكر بعد ذلك الاختلاف الكثير.
فكأنه
يقول: اعتصموا من الاختلاف قبل حدوثه: بتقوى الله والسمع والطاعة للأمراء، وإن
كانوا ليسوا أهلا للإمارة في نظركم.
ثم
ذكر حدوث الاختلاف الكثير، وذكر النجاة منه بأمرين: التمسك بالسنة واجتناب البدعة.
وأصرح
منه حديث حذيفة المشهور حيث قال في آخره (دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها
قذفوه فيها).
قال:
فما تأمرني إن أدركني ذلك؟
قال:
(تلزم جماعة المسلمين وإمامهم) .
قال:
فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟
قال:
(فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك).
فهذا
صريح في أنه، إن فرض، خلو الزمان من الجماعة والإمام، فستحدث حينها الفرق، فأمر
باجتنابها كلها، دون تفصيل، فالوحدة خير من الانحياز إلى فرقة.
ثم
نقول: إن منشأ أكبر الفرق العقدية الضالة، كالخوارج والشيعة، إنما كان بسبب التفرق
السياسي، والتظاهر، والخروج على ولاة الأمر، فقتل عثمان، ثم فشت الفرق العقدية في
الدين.
فإذا
كان ذلك قد حصل في الزمان القديم، في حضرة كبار الصحابة والخلفاء الراشدين، فكيف
يظن بفرق هذا الزمان السياسية؟
وصحيح
أن فرقة الإخوان، لم تقيد أتباعها بمذهب عقدي معين، لكنها قد ميعت أمر الاعتقاد
جداً، وزهدت في السنة، فافترق أفرادها على عقائد شتى، فظهر فيهم المعتزلي،
والجهمي، والأشعري، والصوفي، والخارجي، والشيعي، والناصبي، والقدري، كما ظهر فيهم
من ينتسب إلى مذهب السلف.
وقد
اشتهر تورط بعض قدمائهم مع الماسون.
ولن
أطيل في هذا، فإنه قد كفانا مئونته اعترافات بعض من انشق عن التنظيم.
والفكر
القطبي هو الغالب على كثير من "إخوان" اليوم ، خاصة في مصر.
وبعد،
فليس قصدي هنا تفصيل الكلام عن هذه الفرقة، ومنهجها، فقد ألفت فيها كتب كثيرة، في
مدحها وذمها، ولست معنياً بذلك، وإنما أردت اختصار الجواب عنها، وبيان أنها قد
افترقت عن الجماعة.
"الترضي
عن الصحابة "
من
أخص عقائد أهل السنة الترضي عن الصحابة وموالاتهم ومحبتهم، والسكوت عما شجر بينهم،
خاصةً في حروب الفتنة في الجمل وصفين.
وهذا
محل إجماع واتفاق بين أهل السنة من القرن الأول إلى يومنا هذا.
بيد
أن الفتن المعاصرة قد فرخت لنا ناعقين باسم الدين، يتكلمون بخلاف ما أجمع عليه
أئمة المسلمين، ويخوضون بالرأي والجهالة، فيما شجر بين الصحابة، يزعمون أنهم
يريدون بذلك الإنصاف، وإحقاق الحق، ونبذ الغلو من الطرفين !
وعلى
رأس هؤلاء الدكتور حاتم، الذي اغتر ببعض ما أوتي من معرفة وعلم، فأخذ يشكك العامة
فيما تعلموه من مشايخ الهدى والدين.
وقد
طعن الدكتور من قبل في دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب، وزعم أن أهل السنة ظلموا
الأشاعرة، وأباح تهنئة الكفار بأعيادهم، وحرف كلام الأئمة لينصر رأيه في ذلك،
وأباح شد الرحال إلى القبور، إلى غير ذلك من الجهالات.
وله
ولعٌ بالطعن واللمز في أهل السنة ومذهبهم وأئمتهم، وتجده في المقابل يتمحل الأعذار
لأهل البدع والخلاف، ويتلطف في انتقادهم بألين ما يكون من الكلام، يكاد يقول لك
"تراهم على حق، ولكن أجبن أن أصرح بذلك"!
نعود
إلى موضوع الصحابة، ففي مجلس له سئل عن مذهب السلف في السكوت عما شجر بين الصحابة
فأجاب "بأن السكوت مطلقاً خطأ، فإنه أتاح لغيرهم أن يذكروا التفاصيل
بالأسانيد الضعيفة".
ثم
ذكر أن الواجب الآن ذكر ما حصل بالتفصيل، بشرط أن لا يقودنا الكلام على الطعن في
الصحابة.
قال
سمير:
هذا الذي قاله، مع مخالفته الصريحة لما اتفق عليه أئمة السلف، فإنه لم يلتزم به،
بل جره التفصيل إلى الطعن في كل المعارضين لعلي رضي الله عنه.
وذكر
أن علياً كان يجب عليه شرعاً أن يقاتل من خالفه في الجمل وصفين.
وهذا
الذي ظنه الدكتور علماً وتحقيقاً، وأنه القول الفصل في المسألة، لم يورد عليه
شاهداً، من قول من يعتد به من أئمة السلف.
ومثل
هذه المسائل لا يصح فيها إلا اتباع كلام الأئمة، فإنهم أعلم بما يصح وما لا يصح من
مقال.
وحسبنا
في الرد عليه ما ذكره شيخ الإسلام، وكرره، في مواضع من كتابه منهاج السنة، أسوقه
باختصار: قال "وقتال صفين للناس فيه أقوال: فمنهم من يقول: كلاهما مجتهد
مصيب.
ومنهم
من يقول: بل المصيب أحدهما لا بعينه.
ومنهم
من يقول: علي هو المصيب وحده، ومعاوية مجتهد مخطئ، كما يقول ذلك طوائف من أهل
الكلام، والفقهاء: أهل المذاهب الأربعة.
ومنهم
من يقول: كان الصواب أن لا يكون قتال، وكان ترك القتال خيراً للطائفتين، فليس في
الاقتتال صواب، ولكن علي كان أقرب إلى الحق من معاوية، والقتال قتال فتنة ليس
بواجب ولا مستحب.
وهذا
هو قول أحمد وأكثر أهل الحديث، وأكثر أئمة الفقهاء.
وهو
قول أكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
ولهذا
كان من مذاهب أهل السنة: الإمساك عما شجر بين الصحابة، فإنه قد ثبتت فضائلهم،
ووجبت موالاتهم ومحبتهم، فالخوض فيما شجر يوقع في نفوس كثير من الناس بغضاً وذماً.
وفي
الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح
به بين فئتين عظيمتين من المسلمين).
فمدح
النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بالإصلاح بينهما، ولو كان القتال بينهما واجباً أو
مستحباً، لم يكن تركه محموداً. [4/200_] .
قال
سمير:
ومما يدلك على فساد مذهب الدكتور، وسوء ظنه بالصحابة، جوابه لمن سأل عن فتنة
الجمل.
حيث
صرح بخطأ وظلم طلحة والزبير وعائشة، وأنكر أن يكون خروجهم لقصد المناصحة، وقال:
"من يخرج لذلك هل يخرج بجيش وسلاح"؟
وقال:
"إنما خرجوا لإرهاب علي وتخويفه".
وقال:
"موقف الزبير كان ظالما".
"ولاشك
أن عائشة كانت مخطئة".
قال
سمير:
أوليس هذا طعناً صريحاً في عدالة الصحابة؟
وقد
فطن السلف لهذا الأمر من قديم, فتركوا الكلام فيما شجر بين الفرقتين, لأن أكثر
النفوس لا تحتمل احترام الطائفتين معاً، فقد يجرها تفصيل الحدث إلى انتقاص
إحداهما، ثم يجره ذلك إلى ما هو أعظم منه، كما حصل للشيعة والخوارج.
وإنكار
الدكتور أن يكون خروج عائشة ومن معها، للمناصحة, مناكدة صريحة لمذهب السلف، فقد
صرحوا بذلك، ولا نعلم مخالفاً لهم، عدا الرافضة، ومن لف لفهم.
فقد
صرح بذلك ابن حزم في الفصل، وابن العربي في العواصم، وابن تيمية في منهاج السنة،
وابن كثير في البداية.
بل
قد صرحت عائشة رضي الله عنها وهي الصديقة، أنها ما خرجت إلا للإصلاح، فإنكار
الدكتور لذلك تكذيب صريح لها، وحاشاها من الكذب.
ومما
يؤكد لك فساد مذهب الدكتور في الصحابة، إنكاره أن يكون مع معاوية شيئ من الحق،
وجعل الحق المحض مع علي وحده.
وشنع
على ابن تيمية قوله عن حديث ( تمرق مارقة على حين فرقة في المسلمين تقتلها أولى
الطائفتين بالحق)، إنه يدل على أن مع كلا الطائفتين حق، وأولاهما به علي.
قال
الدكتور: "وهذا خطأ كبير وقع فيه شيخ الإسلام، بل هو باطل بإجماع".
ثم
ذكر الدكتور: أن الحديث لا شأن له بمعاوية، إنما هو بين علي والخوارج فقط.
قال
سمير:
وهذا الفهم السقيم الذي انفرد به، والإنكار لما قاله ابن تيمية، إنما يؤكد جهله
واغتراره بقليل علم استفاده، فلم يسعفه في معرفة الحق، أحوج ما يكون له، لأنه أصر
على معاندة مذهب السلف، فضاق عطنه عن الفهم السديد.
وكم
من عائب قولاً صحيحاً وآفته
من الفهم السقيم
والجواب
عليه باختصار: أن الحديث صريحٌ في ذكر ثلاث طوائف، فإنه قال: تمرق مارقة على حين
فرقة من المسلمين.
فعندنا
فئة مارقة، وهي الخوارج.
وعندنا
فرقة بين المسلمين، وقد علم قطعاً أن فرقة علي لا يطلق عليها وحدها فرقة إلا
ويقابلها أخرى، وهي فرقة معاوية. وألفاظ الحديث الأخرى تؤكد ذلك.
فمن
ذلك رواية مسلم وأحمد (تكون في أمتي فرقتان، فتخرج من بينهما مارقة، يلي قتلهم
أولاهم بالحق).
قال
ابن كثير "وفيه أن أصحاب علي أدنى الطائفتين إلى الحق، وهذا هو مذهب أهل
السنة والجماعة: أن علياً هو المصيب، وإن كان معاوية مجتهداً، وهو مأجور إن شاء
الله, ولكن علي هو الإمام، فله أجران ".
ففهم
ابن كثير للحديث مطابق لفهم ابن تيمية.
وأخرج
ابن حبان في صحيحه هذا الحديث بلفظ (يكون في أمتي فرقتان، تمرق بينهما مارقة،
تقتلها أولى الطائفتين بالحق).
ذكره
تحت باب:.. وقعة صفين بين المسلمين.
وانظر
كلام المازري في المعلم، والقاضي عياض في إكمال المعلم.
وذكر
ابن حجر في الفتح، عند شرحه لحديث (لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان دعواهما
واحدة)، أن في بعض طرقه زيادة في آخره عند الطبري قال (فبينما هم كذلك، إذ مرقت
مارقة، يقتلها أولى الطائفتين بالحق). [12/303] .
قال
سمير:
وهذه الزيادة في مسند أحمد ومصنف عبدالرزاق أيضا.
فظهر
بذلك صحة قول شيخ الإسلام، والأئمة، وهو الموافق للنصوص. ومما يؤكد لك تحامل
الدكتور على معاوية رضي الله عنه، جوابه عن سؤال: هل صح في فضل معاوية حديث؟ فأنكر
ذلك.
فلما
ذكر له: أنه كان كاتباً للوحي، وأنه لقب بخال المؤمنين، وأن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له، جعل الدكتور يتمحل في رد ذلك.
فذكر:
أن كتابة الوحي لا منقبة فيها، فقد كان ابن خطل كاتباً للوحي ثم ارتد!
ثم
ذكر: أن الراجح أن معاوية كان يكتب رسائل النبي صلى الله عليه وسلم للملوك.
وأجاب
عن كونه خال المؤمنين، بأن هذه لا منقبة فيها، لأن الفضائل لا تعرف بالأنساب.
ثم
أجاب عن جيش القسطنطينية، بأن هذه المنقبة تذكر ليزيد، لا لأبيه معاوية، ثم
قال"غزو القسطنطينية كان قبل يزيد بعشر سنوات، وهذه مشكلة أخرى، أن ننتقل من
فضائل معاوية إلى فضائل يزيد".
قال
سمير:
انظر _ رحمك الله _ كيف يصنع الهوى بصاحبه، فيعمي عليه الحق، مع وضوحه وجلائه.
أولا:
كونه كاتباً للوحي ( أو كاتباً للرسائل النبوية للملوك)، فهذه منقبة عظيمة، فإن
هذا الاختيار يدل على أنه أهل لحمل تلك الأمانة العظيمة.
وقد
كان الصحابة يتسابقون على ما هو دون ذلك، من أعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم
وخدمته، حتى حمل نعليه وطهوره، فكيف بمن يختاره النبي صلى الله عليه وسلم لحمل
أمانة كتابة رسائله إلى الملوك؟
كيف،
وقد صحت روايات تدل على أنه كان أيضاً يكتب الوحي، ذكر بعضها الذهبي في السير؟
وصرح
بذلك الإمام أحمد وابن تيمية.
وأما
عن تلقيب معاوية بخال المؤمنين، فيكفينا قول أحمد بن حنبل إمام أهل السنة في عصره.
فقد
سئل عن قوم قالوا: لا نقول معاوية خال المؤمنين.
فغضب
وقال: ما اعتراضهم في هذا الموضع؟ يجفون حتى يتوبوا.
وسئل
أيضا: ما تقول فيمن قال: لا أقول إن معاوية كاتب الوحي، ولا أقول إنه خال
المؤمنين.
فقال
الإمام أحمد: هذا قول سوء رديء، يجانبون هؤلاء القوم، ولا يجالسون، ونبين أمرهم
للناس. انتهى من السنة للخلال.
قال
سمير:
فهذا حكم إمام أهل السنة في مثل هذا الدكتور وأضرابه، ولا مزيد على قوله. وأما عن
فضل من غزا القسطنطينية فإن هذا قد صح من حديث أم حرام أنها قالت: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول (أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا).
قالت
أم حرام قلت: يارسول الله أنا فيهم؟
قال:
(أنتِ فيهم).
ثم
قال: (أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم).
فقالت:
أنا فيهم يا رسول الله ؟
قال:
(لا). متفق عليه.
قال
المهلب: في هذا الحديث منقبة لمعاوية لأنه أول من غزا البحر. وذكر ابن كثير أن
معاوية غزا قبرص سنة 27، وكانت معهم أم حرام، ثم ماتت، ثم غزا يزيد القسطنطينية
سنة 49 في خلافة أبيه.
قال
سمير:
ضاق صدر الدكتور بذكر هذه المنقبة العظيمة لمعاوية وابنه يزيد، فلم يجد جواباً سوى
صرف الكلام، وأعرض عن ذكر الحديث بالكلية، وهذا حال أهل البدع والأهواء، حين تصك
أسماعهم النصوص، فلا يجدون حيلة في دفعها وتكذيبها، سوى الشقشقة والتمويه، يود
أحدهم لو محاها من الكتب.
وأختم
كلامي هنا بذكر أحاديث في فضل معاوية، أسخن بها عين كل حاقد عليه رضي الله عنه.
حديث
عبدالرحمن بن أبي عميرة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لمعاوية فقال: (اللهم
اجعله هادياً مهدياً، واهد به). رواه الترمذي وحسنه.
ورواه
أصحاب كتب السنة المشهورة، الآجري في الشريعة، وابن بطة في الإبانة، واللالكائي في
السنة.
وانتصر
لهذا الحديث: الجورقاني، وابن عساكر، وابن كثير، ثم الألباني.
وحديث
العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم علم معاوية الكتاب
والحساب، وقه العذاب). رواه أحمد في المسند وابن خزيمة وابن حبان.
وللحديث
شواهد موصولة ومرسلة، ذكرها الذهبي وقوى بعضها.
وذكر
الذهبي حديثاً آخر مرسلاً وقواه، أن رجلاً قال: كيف نستطيع الشام وفيه الروم؟
فضرب
رسول الله صلى الله عليه وسلم كتف معاوية وقال: (يكفيكم الله بهذا).
"
خاتمة "
أما
بعد، فقد أطلت الكلام في هذه المسائل، ولا أزعم أني أوفيتها حقها لأن الشبهات التي
يبثها شيوخ الفتنة، لا تكفيها ورقات، بل تحتاج إلى مجلدات لتفنيدها.
ونحن
في زمنٍ كثر فيه المتعالمون، والمشبهون، والملبسون بالباطل، يقذف أحدهم الشبهة في
كلمات، فتعلق بها قلوب العامة، ويزينها لهم الشيطان حتى تصبح ديناً ومذهباً،
فتفترق بسببه الأمة أحزاباً وفرقاً. ومن ثم حذر السلف من الاستماع إلى البدع،
ومجالسة أهلها, لأن الضرر الحاصل من ذلك على الدين والأمة كبير. هذا، ولا زال
للبحث بقية، لعلي أكملها، إن يسر الله ذلك، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
***********************
وكتب
: سمير بن خليل المالكي
جوال
0591114011
مكة
المكرمة حرسها الله..
الجمعة 26/10/1435هــ
جزاك الله خيرآ ياشيخ اهل السنه والجماعه
ردحذف