وإذا قلتم فاعدلوا
الحمد
لله ، والصلاة والسلام على رسول الله .
أما
بعد ، فقد اطلعت على تغريدة لفضيلة الشيخ عيسى الغيث يقول فيها " عند الجمهور
صلاة الجماعة سنة مؤكدة ، وفي المسجد فرض كفاية ، وإغلاق المحلات للجمعة واجب ،
وأما باقي الصلوات فمحل نظر " اهـ .
وهذا
تعقيب مختصر على تلك التغريدة لأن المقام لا يحتمل التطويل ، ولأن ما ورد في كلام
فضيلته صحيح في الجملة ، لكنه يحتاج إلى تفصيل ، حتى لا يتذرع به من يبتغي الفتنة
وإثارة البلبلة في الأمة ، فأقول، وبالله
التوفيق :
أولاً
: لا
يخفى على فضيلة الشيخ أن لفظ "الجمهور " الذي ذكره في تغريدته ، يوهم
غير المتخصصين بأن معناه الأكثرية المطلقة ، وليس الأمر كذلك ، بل هو مصطلح فقهي
يخص أقوال المذاهب الأربعة ، بحيث لو كان في المسألة قولان - مثلاً - فاتفق ثلاثة
على قول ، فإنه يقال حينئذ : هو قول الجمهور.
فإطلاق
كلمة "الجمهور " على قول ، لا
يقتضي أنه اختيار الأكثر ، مطلقاً ، كما أنه لا يعني أنه الأرجح والأصوب.
ومعلوم
أن المذاهب الفقهية ليست منحصرة في الأربعة المشهورة ، فمذاهب علماء الأمصار من
التابعين وأتباعهم ومن جاء بعدهم ، لا تكاد تحصر .
ثم
إنه كثيراً ما يطلق على قول بأنه مذهب الجمهور ، وهو ضعيف ، لمخالفته النصوص
الصريحة .
بل
قد ظهر بطلان دعوى الإجماع في مسائل كثيرة ، كما ذكر ذلك ابن تيمية وغيره .
ثانياً
: وإطلاق
القول بأن "صلاة الجماعة سنة مؤكدة ، وأن أداءها في المسجد فرض كفاية "
، يخالف ظاهر النصوص ، وعلى فرض صحة هذا القول ، فإن القول الآخر ، وهو الفرض
العيني ، ليس ضعيفاً ولا مهجورا ، بل هو مذهب كثير من الصحابة ، ووافقهم عليه
الأئمة : الأوزاعي وأحمد واسحق بن راهويه وأبو ثور وابن خزيمة وابن المنذر وابن
القيم وغيرهم .
وهو
الذي ارتضاه أئمة الدعوة النجدية ، وأطبق عليه كبار العلماء في بلاد الحرمين ،
وجرت عليه الفتوى إلى وقت ابن إبراهيم وابن باز ، ثم إلى يومنا هذا .
فالفتوى
الرسمية عندنا - حتى الآن - وجوب صلاة الجماعة في المسجد بالشروط المعتبرة .
وقد
ذهب بعض أهل العلم إلى أن الجماعة شرط لصحة الصلاة على القادرين من الرجال ، وهي رواية
عن الإمام أحمد، واختيار ابن عقيل وابن تيمية ، ونص عليه ابن حزم .
ثالثاً
: ومعلوم
لدى صغار طلبة العلم ، أن التحاكم عند التنازع في المسائل الشرعية كلها ، إنما
يكون إلى نصوص الكتاب والسنة ، وأن التذرع بالخلاف إنما هو سبيل الجاهلين .
ومعلوم
، كذلك ، أن الأكثرية والأقلية ، وصف لا ينضبط ، خاصةً بعد عصر الصحابة .
وعلماء
الأمة قد تفرقوا في الأمصار ، فيصعب أن يقال : مذهب الأكثرية كذا ، إلا على
الاصطلاح الفقهي المعروف .
رابعاً
: ثم
نقول : على فرض أن ما قاله فضيلته عن حكم صلاة الجماعة ، صحيح ، وأن إغلاق المحلات
، فيما سوى الجمعة ، فيه نظر ، أو أنه غير واجب ، فإن المصلحة الشرعية لا تمنع من
فعله ، بل ربما تقتضيه من باب المحافظة على أداء الصلاة ، فإن كثيراً من
العاملين قد يسهون عنها حتى يخرج وقتها ،
بل حتى غيرهم من القاصدين للشراء ، كما لا يخفى .
فيندرج
ذلك العمل تحت المصالح المرسلة .
وكثير
من السياسات والقرارات تندرج أحكامها وفق قاعدة :
جلب المصالح ، ودرء المفاسد .
فإن
أحكام الشريعة مبنية على تحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها .
وأما
ما يتذرّع به بعض الناس ، من دعاوى حصول المشقة والحرج الشديد ، من إغلاق الأسواق
ونحوها، لاحتمال حدوث حالات تستدعي فتحها على الدوام ، فهو من المماحكة .
ولو
فرض - جدلاً - أنه قد تحدث حالة تستدعي ذلك ، فإنها من النوادر ، والأحكام لا تبنى
على النادر ولا على الاحتمال البعيد ، وإنما على الأعم والأغلب .
ولهذا
لم تلزم المستشفيات والعيادات والطوارئ ، بقفلها أوقات الصلوات .
وكذا
الإدارات المعنية بالإنقاذ ، كالدفاع المدني وأقسام الشرطة بفروعها .
بل
كل الإدارات الرسمية لا تغلق وقت الدوام ، وقد أوكل إليها أمر إقامة الصلاة ، دون
تقييد بجماعة المسجد.
خامساً
: ثم
نقول إن إغلاق الأسواق ، أوقات الصلوات ، أمر مسكوت عنه في الشرع ، وقد فرضه ولاة
الأمر لمصلحة الرعية ، إما سياسةً تندرج تحت الأصول المرعية ، كما تقدم ، وإما أن
يكون اختياراً فقهياً ، اجتهدوا فيه ، فهو يرفع الخلاف ، ويلزم الناس طاعتهم فيه.
وهذا
ما دندن حوله فضيلة الشيخ عيسى من قبل في مقال سابق ، في مسألة الاختلاط - قبل
سنوات - ولم يكتف بذلك بل أتبعه بمقالات كال فيها التهم جزافاً لكل من عارضه واحتج
عليه بالدليل والتعليل ، حتى إنه جعلهم في زمرة المثيرين للفتن ، أو الخارجين على
ولاة الأمر !
وأذكر
كيف كان الشيخ يومها متشنجاً في كلامه ، وكان يكثر اللمز لمخالفيه ، مع أن الفتوى
الرسمية من أعلى جهة في الدولة كانت تصرح بمنع الاختلاط ، ولم يصدر منها أي تراجع
عن الفتوى المعمول بها منذ تأسيس الدولة حتى ذلك الوقت ، وهي مستمرة حتى اليوم !
وله
مقال سابق ، كذلك ، قبل أشهر، قرر فيه مثل ذلك ، حين صدر مرسوم ينظم مهام هيئة
الأمر .
فلماذا
خالف فضيلته ما قرره سابقاً ، خاصةً وأنه حتى الآن لم يصدر أي بيان من جهة الفتوى
الرسمية ، ولا من غيرها من الإدارات العليا صاحبة القرار ، بشأن إغلاق المحلات
أوقات الصلوات ؟
فماذا
نسمي هذا التناقض الواضح في موقف فضيلته من القضيتين ؟
سادساً
: قد
نعجب من جرأة كثير من الإعلاميين ، في معارضة سياسة الدولة في أكثر
القضايا التي تُعنَى بحراسة الفضيلة ، وحفظ الدين والأعراض .
لكن
العجب الأكبر حقاً ، هو من متابعة بعض المنتسبين للعلم والمشيخة ، وتقليدهم لمثل
تلك المهازل والجهالات التي يقودها سفهاء الأحلام من رجال الإعلام .
تقرأ
كثيراً من مقالات فضيلة الشيخ عيسى وأضرابه وتغريداتهم ، فتجدها، إنما تستهدف ،
عادة ، فئةً معينةً ، وتعنى بقضايا مشهورة ، لغرض إثارة الفتنة والبلبلة ، فإذا
تأملتها وجدتها مسايرة لما تبثه وسائل الإعلام !
وأوضح
مثل لذلك ، تغريدة الشيخ هذه ، فإنها صدرت عقب حلقة من مسلسل هَزْليّ في قناة الشر
(المعروفة) ، تهكموا فيها على الهيئة ، وغلق الأسواق !
ليت
فضيلته سخّر قلمه وعلمه في الذب عن شريعة الإسلام ، وعن حماتها وحرماتها ، التي
تبتذل إلى دركة تقارب الكفر، أحياناً ، خاصة في مسلسلات رمضان !
بدلاً
من أن يشغل نفسه ووقته بمناكدة أهل العلم
والحسبة !
نعم
، ثمة أخطاء وتجاوزات ، قد تصدر من بعض المنتسبين للعلم والحسبة ، لا يصلح السكوت
عليها.
لكنها
قليلة ويسيرة ، بجانب من يجاهر بالسوء في وسائل الإعلام.
وجهاد
هؤلاء بالحجة والبيان من أعظم أنواع الجهاد.
والسكوت
عنهم ، أو التلطف في نقدهم ، وشنّ الغارة على غيرهم من أهل العلم والحسبة ، ليس من
الحكمة ، ولا من العدل في شيء.
سابعاً:
السبيل الأيسر إلى نيل الشهرة عند بعض المشايخ اليوم ، واحتفاء وسائل الإعلام
بهم ، وبمقالاتهم وتغريداتهم، هو في إظهار المخالفة والسخرية والتهكم بالدين
وعلمائه ورجال الحسبة .
فتعقد
للمخالف لقاءات وبرامج في الفضائيات ، وتنشر له المقالات في الصحف والمجلات .
ولا
يدري هذا البائس المسكين ، أنه يُستَخدمُ من قِبَل شرذمة مردت على النفاق ، لهدم
الدين ، أو التشكيك فيه ، وأنهم لن يرضوا منه ببعض الموافقات ، بل سيراودونه عن
دينه ، حتى ينسلخ منه ، كما رأينا بعض النماذج البائسة ، التي كانت تنتسب يوماً ما
إلى العلم والدعوة ، ثم ما لبثت حتى هَوَت في واد سحيق .
نسأل
الله الثبات على الحق والهدى حتى نلقاه غير مفتونين.
وكتب سمير بن خليل المالكي
مكة المكرمة
الاحد ٢٨/ رمضان / ١٤٣٧هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق