الخميس، 7 يوليو 2016

وإذا قلتم فاعدلوا


الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله .
أما بعد ، فقد اطلعت على تغريدة لفضيلة الشيخ عيسى الغيث يقول فيها " عند الجمهور صلاة الجماعة سنة مؤكدة ، وفي المسجد فرض كفاية ، وإغلاق المحلات للجمعة واجب ، وأما باقي الصلوات فمحل نظر " اهـ .
وهذا تعقيب مختصر على تلك التغريدة لأن المقام لا يحتمل التطويل ، ولأن ما ورد في كلام فضيلته صحيح في الجملة ، لكنه يحتاج إلى تفصيل ، حتى لا يتذرع به من يبتغي الفتنة وإثارة البلبلة في الأمة ، فأقول، وبالله التوفيق :
أولاً : لا يخفى على فضيلة الشيخ أن لفظ "الجمهور " الذي ذكره في تغريدته ، يوهم غير المتخصصين بأن معناه الأكثرية المطلقة ، وليس الأمر كذلك ، بل هو مصطلح فقهي يخص أقوال المذاهب الأربعة ، بحيث لو كان في المسألة قولان - مثلاً - فاتفق ثلاثة على قول ، فإنه يقال حينئذ : هو قول الجمهور.
فإطلاق كلمة  "الجمهور " على قول ، لا يقتضي أنه اختيار الأكثر ، مطلقاً ، كما أنه لا يعني أنه الأرجح والأصوب.
ومعلوم أن المذاهب الفقهية ليست منحصرة في الأربعة المشهورة ، فمذاهب علماء الأمصار من التابعين وأتباعهم ومن جاء بعدهم ، لا تكاد تحصر .
ثم إنه كثيراً ما يطلق على قول بأنه مذهب الجمهور ، وهو ضعيف ، لمخالفته النصوص الصريحة .
بل قد ظهر بطلان دعوى الإجماع في مسائل كثيرة ، كما ذكر ذلك ابن تيمية وغيره .
ثانياً : وإطلاق القول بأن "صلاة الجماعة سنة مؤكدة ، وأن أداءها في المسجد فرض كفاية " ، يخالف ظاهر النصوص ، وعلى فرض صحة هذا القول ، فإن القول الآخر ، وهو الفرض العيني ، ليس ضعيفاً ولا مهجورا ، بل هو مذهب كثير من الصحابة ، ووافقهم عليه الأئمة : الأوزاعي وأحمد واسحق بن راهويه وأبو ثور وابن خزيمة وابن المنذر وابن القيم وغيرهم .
وهو الذي ارتضاه أئمة الدعوة النجدية ، وأطبق عليه كبار العلماء في بلاد الحرمين ، وجرت عليه الفتوى إلى وقت ابن إبراهيم وابن باز ، ثم إلى يومنا هذا .
فالفتوى الرسمية عندنا - حتى الآن - وجوب صلاة الجماعة في المسجد بالشروط المعتبرة .
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الجماعة شرط لصحة الصلاة على القادرين من الرجال ، وهي رواية عن الإمام أحمد، واختيار ابن عقيل وابن تيمية ، ونص عليه ابن حزم .
ثالثاً : ومعلوم لدى صغار طلبة العلم ، أن التحاكم عند التنازع في المسائل الشرعية كلها ، إنما يكون إلى نصوص الكتاب والسنة ، وأن التذرع بالخلاف إنما هو سبيل الجاهلين .
ومعلوم ، كذلك ، أن الأكثرية والأقلية ، وصف لا ينضبط ، خاصةً بعد عصر الصحابة .
وعلماء الأمة قد تفرقوا في الأمصار ، فيصعب أن يقال : مذهب الأكثرية كذا ، إلا على الاصطلاح الفقهي المعروف .
رابعاً : ثم نقول : على فرض أن ما قاله فضيلته عن حكم صلاة الجماعة ، صحيح ، وأن إغلاق المحلات ، فيما سوى الجمعة ، فيه نظر ، أو أنه غير واجب ، فإن المصلحة الشرعية لا تمنع من فعله ، بل ربما تقتضيه من باب المحافظة على أداء الصلاة ، فإن كثيراً من العاملين  قد يسهون عنها حتى يخرج وقتها ، بل حتى غيرهم من القاصدين للشراء ، كما لا يخفى .
فيندرج ذلك العمل تحت المصالح المرسلة .
وكثير من السياسات والقرارات تندرج أحكامها وفق قاعدة :  جلب المصالح ، ودرء المفاسد .
فإن أحكام الشريعة مبنية على تحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها .
وأما ما يتذرّع به بعض الناس ، من دعاوى حصول المشقة والحرج الشديد ، من إغلاق الأسواق ونحوها، لاحتمال حدوث حالات تستدعي فتحها على الدوام ، فهو من المماحكة .
ولو فرض - جدلاً - أنه قد تحدث حالة تستدعي ذلك ، فإنها من النوادر ، والأحكام لا تبنى على النادر ولا على الاحتمال البعيد ، وإنما على الأعم والأغلب .
ولهذا لم تلزم المستشفيات والعيادات والطوارئ ، بقفلها أوقات الصلوات .
وكذا الإدارات المعنية بالإنقاذ ، كالدفاع المدني وأقسام الشرطة بفروعها .
بل كل الإدارات الرسمية لا تغلق وقت الدوام ، وقد أوكل إليها أمر إقامة الصلاة ، دون تقييد بجماعة المسجد.
خامساً : ثم نقول إن إغلاق الأسواق ، أوقات الصلوات ، أمر مسكوت عنه في الشرع ، وقد فرضه ولاة الأمر لمصلحة الرعية ، إما سياسةً تندرج تحت الأصول المرعية ، كما تقدم ، وإما أن يكون اختياراً فقهياً ، اجتهدوا فيه ، فهو يرفع الخلاف ، ويلزم الناس طاعتهم فيه.
وهذا ما دندن حوله فضيلة الشيخ عيسى من قبل في مقال سابق ، في مسألة الاختلاط - قبل سنوات - ولم يكتف بذلك بل أتبعه بمقالات كال فيها التهم جزافاً لكل من عارضه واحتج عليه بالدليل والتعليل ، حتى إنه جعلهم في زمرة المثيرين للفتن ، أو الخارجين على ولاة الأمر !
وأذكر كيف كان الشيخ يومها متشنجاً في كلامه ، وكان يكثر اللمز لمخالفيه ، مع أن الفتوى الرسمية من أعلى جهة في الدولة كانت تصرح بمنع الاختلاط ، ولم يصدر منها أي تراجع عن الفتوى المعمول بها منذ تأسيس الدولة حتى ذلك الوقت ، وهي مستمرة حتى اليوم !
وله مقال سابق ، كذلك ، قبل أشهر، قرر فيه مثل ذلك ، حين صدر مرسوم ينظم مهام هيئة الأمر .
فلماذا خالف فضيلته ما قرره سابقاً ، خاصةً وأنه حتى الآن لم يصدر أي بيان من جهة الفتوى الرسمية ، ولا من غيرها من الإدارات العليا صاحبة القرار ، بشأن إغلاق المحلات أوقات الصلوات ؟
فماذا نسمي هذا التناقض الواضح في موقف فضيلته من القضيتين ؟
سادساً : قد نعجب  من جرأة كثير من  الإعلاميين ، في معارضة سياسة الدولة في أكثر القضايا التي تُعنَى بحراسة الفضيلة ، وحفظ الدين والأعراض .
لكن العجب الأكبر حقاً ، هو من متابعة بعض المنتسبين للعلم والمشيخة ، وتقليدهم لمثل تلك المهازل والجهالات التي يقودها سفهاء الأحلام من رجال الإعلام .
تقرأ كثيراً من مقالات فضيلة الشيخ عيسى وأضرابه وتغريداتهم ، فتجدها، إنما تستهدف ، عادة ، فئةً معينةً ، وتعنى بقضايا مشهورة ، لغرض إثارة الفتنة والبلبلة ، فإذا تأملتها وجدتها مسايرة لما تبثه وسائل الإعلام !
وأوضح مثل لذلك ، تغريدة الشيخ هذه ، فإنها صدرت عقب حلقة من مسلسل هَزْليّ في قناة الشر (المعروفة) ، تهكموا فيها على الهيئة ، وغلق الأسواق !
ليت فضيلته سخّر قلمه وعلمه في الذب عن شريعة الإسلام ، وعن حماتها وحرماتها ، التي تبتذل إلى دركة تقارب الكفر، أحياناً ، خاصة في مسلسلات رمضان !
بدلاً من أن يشغل نفسه ووقته بمناكدة أهل العلم  والحسبة !
نعم ، ثمة أخطاء وتجاوزات ، قد تصدر من بعض المنتسبين للعلم والحسبة ، لا يصلح السكوت عليها.
لكنها قليلة ويسيرة ، بجانب من يجاهر بالسوء في وسائل الإعلام.
وجهاد هؤلاء بالحجة والبيان من أعظم أنواع الجهاد.
والسكوت عنهم ، أو التلطف في نقدهم ، وشنّ الغارة على غيرهم من أهل العلم والحسبة ، ليس من الحكمة ، ولا من العدل في شيء.
سابعاً: السبيل الأيسر إلى نيل الشهرة  عند بعض المشايخ اليوم ، واحتفاء وسائل الإعلام بهم ، وبمقالاتهم وتغريداتهم، هو في إظهار المخالفة والسخرية والتهكم بالدين وعلمائه ورجال الحسبة .
فتعقد للمخالف لقاءات وبرامج في الفضائيات ، وتنشر له المقالات في الصحف والمجلات .
ولا يدري هذا البائس المسكين ، أنه يُستَخدمُ من قِبَل شرذمة مردت على النفاق ، لهدم الدين ، أو التشكيك فيه ، وأنهم لن يرضوا منه ببعض الموافقات ، بل سيراودونه عن دينه ، حتى ينسلخ منه ، كما رأينا بعض النماذج البائسة ، التي كانت تنتسب يوماً ما إلى العلم والدعوة ، ثم ما لبثت حتى هَوَت في واد سحيق .
نسأل الله الثبات على الحق والهدى حتى نلقاه غير مفتونين.



وكتب سمير بن خليل المالكي
مكة المكرمة

الاحد ٢٨/ رمضان / ١٤٣٧هـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق