السبت، 3 سبتمبر 2011

إعلام المتقين بخطر الابتداع في الدين

                                      إعلام المتقين بخطر الابتداع في الدين
بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة يحكم بين عباده فيما هم فيه مختلفون ، أرسل رسله بالبينات والهدى وجعلهم حجة على الورى ، فمن أطاعهم واتبع سبيلهم فقد اهتدى ، ومن ابتغى سبيلاً غير سبيلهم فقد ضل وغوى . قال الله تعالى { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه }.
[ الشورى 13] .
وقال { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط }
[ الحديد 25]
والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين الذي ختم الله به الرسل أجمعين وجعل شريعته ناسخة لشرائعهم ، وفرض على الخلق كلهم ، عربهم وعجمهم ، أن يقتفوا أثره ويتبعوا سنته ، حتى من كان منهم مستمسكاً بشريعة من سبقه من الرسل ، بل أخذ الميثاق من قبل على الرسل أن يتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم لو بعث فيهم . قال الله تعالى { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين } . [ آل عمران 81] فإذا كان هذا حكمه سبحانه وميثاقه على أنبيائه ورسله في طاعة محمد صلى الله عليه وسلم واتباعه ، فكيف بمن سواهم من البشر؟
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم ما يؤيد هذا المعنى ، حيث قال ( لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي ) . انظر شرح السنة للبغوي [ 1/ 270 ] .

فصل
الإتباع

أما بعد ، فإن هذا الدين العظيم جاء متمماً للأديان السابقة ، وخاتماً للشرائع السالفة ، ونزل كاملاً مكملاً ، طوال عمر الرسالة المحمدية ، ولم يترك شاردة ولا واردة إلا وبينها نصاً أو استنباطاً ، فغاية المقصود ، ونهاية المطلوب حياله هو : الاتباع .
وأول من أمره الله تعالى باتباع هذا الدين والالتزام بشرائعه وحذره من مخالفته ، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم .
* فمن ذلك قوله عز وجل { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون } [ الجاثية 18 ] .
والشريعة هنا هي السنّة .. التي افترضها الله وشرعها لرسوله .
* وقال أيضا{ فلذلك فادع واستقم كما أُمرت ولا تتبع أهواءهم }[ الشورى 15] .
* وقال سبحانه { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لايرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله ، قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } [ يونس 15 ] .
وانتظمت هذه الآية أموراً :
* منها : بيان أن الرسول صلى الله عليه وسلم متبع غير مبتدع .
* وأنه لايحل له أن يبدل حكماً أو أمراً أو شرعاً من عنده .
* وأنه لو فرض أنه فعل ذلك فإنه متوعد بعذاب عظيم ، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يفعل .
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم قوله (( وإني لست أحرم حلالاً ولا أحل حراماً )) رواه البخاري ومسلم . انظر جامع الأصول [ 9 / 127 ] .
وكان يُسأل صلى الله عليه وسلم مسائل فينتظر مجيء الوحي بالجواب ، وربما أجاب صلى الله عليه وسلم بما عنده من علم ثم ينزل الوحي بغير ما أجاب به .
* فمن ذلك لما نزل قول الله تعالى{لا يستوي القاعدون من المؤمنين } [ النساء 95 ] فجاءه ابن أم مكتوم الأعمى وشكا إليه عجزه عن الجهاد ، فنزل عليه الوحي حينها بالاستثناء فقال سبحانه { غير أولي الضرر } .
* ولما جاءته خولة تشتكي زوجها لما ظاهر منها وتستفتيه صلى الله عليه وسلم ، قال لها (( يا خويلة ابن عمك شيخ كبير فاتقي الله فيه )) وفي لفظ (( ما أعلمك إلا قد حرمت عليه )) .
فنزل حكم الله تعالى بالكفارة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم (( يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك )) ثم قرأ عليها الآيات . [ انظر تفسير ابن كثير] .
فإذا كان هذا أمر الله وقضاءه وحكمه لخاتم رسله ، أن يتبع ما شرعه له ويلتزم بما سنه له ، فكيف بمن سواه من الخلق ؟
ومن ثم فقد تواترت الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة على فرض اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والتزام هديه وسنته وحذرت من مخالفته في صغير أو كبير ، أو اتباع غيره في جليل أو حقير .


فصل
التحذير من البدع والأهواء

وقد تواترت الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على التحذير من الأهواء والبدع في الدين ، فمن الكتاب :
1 - قول الله تعالى { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا } الآية [ آل عمران 7] وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (( إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)) رواه البخاري ومسلم جامع الأصول [2/63] .
ومعلوم أن هذه الآية نزلت في نصارى نجران ومناظرتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن عيسى عليه السلام حيث تركوا المُحكم الواضح في بيان أن عيسى عليه السلام عبدالله ورسوله واتبعوا المتشابه الذي تأوّلوه وحرّفوا معناه إلى معنىً باطل فزعموا أنه هو الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة.
كما تأولت الفرق الضالة من هذه الأمة نصوص الكتاب واتبعوا المتشابهات وتركوا المحكمات الواضحات البينات فضلوا وأضلوا .
وهكذا فعل سائر أهل الأهواء والبدع ، سواء منهم من كانت بدعته في أصل من أصول الديانة أو في فروعها العملية .
فما من فرقة إلا واستدلت على بدعتها بمتشابه الكتاب والسنة ، وهي النصوص المحتملة أوجهاً ، فيصرفونها إلى الوجه الموافق لبدعتهم ويحرفون الكلم عن مواضعه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله .
خذ مثلاً على ذلك : الذين غلوا في النبي صلى الله عليه وسلم أو في غيره من الأولياء والصالحين ، كما غلت النصارى في عيسى عليه السلام وكما غلا المشركون من قوم نوح ومن بعدهم في أنبيائهم وصالحيهم ، فإنهم احتجوا بمتشابهات فقالوا : هؤلاء أناس صالحون وأولياء مقربون تُرجى شفاعتهم وتقبل وساطتهم عندالله ، فنتخذهم شفعاء ووسطاء ونتوسل بهم ونعكف على قبورهم ، لأنهم إن كانوا أنبياء فهم أحياء بنص القرآن والسنة ، وإن لم يكونوا أنبياء فهم أعلى رتبة من الشهداء الذين نص القرآن على حياتهم .
إلى غير ذلك من الشبهات المعروفة التي تواترت آيات الكتاب ونصوص السنة على دحضها وتفنيدها والرد عليها جملة وتفصيلاً .
وقد تتبعت المسائل التي يدندن حولها هؤلاء الغلاة ويشبِّهون بها على العامة ، فوجدتها ترجع إلى خمس مسائل :
الأولى : محبة الرسول صلى الله عليه وسلم .
الثانية : حياته صلى الله عليه وسلم في قبره .
الثالثة : زيارة قبره وشد الرحال إليه .
الرابعة : التوسل به .
الخامسة : الاستشفاع به .
انظر – إن شئت – تفصيل الكلام على هذه المسائل الخمس ، في كتاب " جلاء البصائر " .
وكذلك الأمر في شبهات أهل الأهواء والفرق ، كالقدرية والخوارج والرافضة والمرجئة ثم الجهمية والمعتزلة ثم الفرق الباطنية التي هي أعظمها خطراً وأشدها خبثاً وجرماً .
ودون هؤلاء الذين ابتدعوا في الدين بدعاً عملية في الصلاة والصيام والذكر والدعاء وغيرها من العبادات والقربات ، واستدلوا عليها بمتشابهات النصوص ، وتركوا المحكمات الواضحات .
2 – الدليل الثاني قوله تعالى { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } [ الأنعام 153 ] .
وهذه الآية الكريمة جاءت خاتمة للوصايا العشر المحكمة التي جمعت أصولاً عظيمة ، فختمها الله تعالى بهذه الوصية الجامعة ، وهي الأمر باتباع صراطه المستقيم وسبيله القويم وهو السنّة وترك سائر السبل الأخرى ، وهي البدع المضلة .
وقد ورد الحديث مؤيداً لهذا المعنى ، حيث قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه " خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطاً ثم قال : هذا سبيل الله ، ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله ثم قال : هذه سُبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ، ثم تلا { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } " رواه الدارمي [ 67 ] .
قال الشاطبي " فالصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا إليه ، وهو السنة. ( والسبل ) هي سبل أهل الاختلاف الحائدين عن الصراط المستقيم ، وهم أهل البدع.
وليس المراد سبل المعاصي ، لأن المعاصي من حيث هي معاص ٍ لم يضعها أحد طريقاً تُسلك دائماً على مضاهاة التشريع ، وإنما هذا الوصف خاص بالبدع المحدثات" ا هـ . [ الاعتصام 1/57 ] .
3 – الدليل الثالث قول الله تعالى { وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين }
[ النحل 9 ] .
قال الشاطبي " فالسبيل القصد هو طريق الحق ، وما سواه جائر عن الحق ، أي عادل عنه ، وهي طرق البدع والضلالات ، أعاذنا الله من سلوكها بفضله . وكفى بالجائر أن يحذر منه ، فالمساق يدل على التحذير والنهي " ا هـ . [ الاعتصام 1/59] .
4 – الدليل الرابع قول الله تعالى { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء . . } [الأنعام 159] .
ذكر ابن عطية وغيره أن هذه الآية تعم أهل الأهواء والبدع .انظرالاعتصام [1/60].
5 – الدليل الخامس قول الله تعالى { ولاتكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون } [ الروم 32 ] .
وهم أصحاب الأهواء والبدع . انظر الاعتصام [ 1/61 ]
6 – الدليل السادس قوله تعالى { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً } [ الكهف 104 ] .
فقد وصف الله الأخسرين أعمالاً بالضلال مع ظنهم أنهم مهتدون ، وهذا ينطبق على المبتدعين في دين الله ، لأنهم يظنون أن بدعتهم حسنة { يحسبون أنهم يحسنون صنعاً } ولم يشفع لهم ظنهم ذلك ، فحكم الله على بدعتهم بالضلال { الذين ضل سعيهم } .
وهذا الحكم يوافق ما ورد في الحديث المشهور (( كل بدعة ضلالة )) ، ويرد على من زعم أن بدعته حسنة .
7 – الدليل السابع قوله تعالى { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله } [الشورى21].
وهذه الآية صريحة في ذم طائفتين من أهل البدع : الأولى وهي الطائفة المبتدعة التي شرعت للناس ديناً وعبادة سوى ما شرعه الله وسنه لعباده ، وحسبها من الذم تسميتها بالشركاء ، فكأنهم بتشريعهم للناس نصبوا أنفسهم أرباباً وآلهة مع الله ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
والطائفة الثانية : وهي التابعة المقلدة للأولى في بدعتها وشرعتها ، فهؤلاء وإن ظنوا أنهم يعبدون الله وحده ، إلا أنهم بطاعتهم لأولئك فقد أشركوا معه غيره .
وهذا الوصف يشمل من شرع للناس ديناً وعبادة تقرب إلى الله ، كما يفعل كثير من مؤسسي الطرق والملل في هذه الأمة .
ويشمل كذلك من شرع للناس قوانين وسن لهم دستوراً يحاد به شرع الله من الرؤساء وأهل السياسة.
والاسم الجامع لهؤلاء وأولئك هو : الطاغوت . { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها } .

فصل

ومن أدلة السنة على وجوب الا تباع والنهي عن الابتداع :
1- قوله صلى الله عليه وسلم (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) رواه البخاري [2697] ومسلم [ 1718 ] . وفي لفظ لمسلم (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) .
قال الحافظ ابن حجر في الفتح [5/ 302 ] ( هذا الحديث معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده ، فإن معناه : من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه . قال النووي : هذا الحديث مما ينبغي أن يعتنى بحفظه واستعماله في إبطال المنكرات و إشاعة الاستدلال به كذلك ..) إلى أن قال ( وقوله " رد " معناه مردود ، من إطلاق المصدر على اسم المفعول ، مثل : خلق و مخلوق ، ونسخ ومنسوخ ، وكأنه قال : فهو باطل غير معتد به .
واللفظ الثاني ، وهو قوله " من عمل " أعم من اللفظ الأول ، وهو قوله " من أحدث" فيحتج به في إبطال جميع العقود المنهية وعدم وجود ثمراتها المرتبة عليها ، وفيه رد المحدثات ، وأن النهي يقتضي الفساد ، لأن المنهيات كلها ليست من أمر الدين فيجب ردها ) ا هـ .
2- قوله صلى الله عليه وسلم في خطبه (( وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة )) رواه مسلم من حديث جابر . [ 867 ] .
3- وقوله صلى الله عليه وسلم في موعظته المشهورة (( فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة )) رواه أبو داود [ 4607 ] والترمذي [ 2676 ] وابن ماجه [ 43 ] من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه .
قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم ( قوله صلى الله عليه وسلم " كل بدعة ضلالة " من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء ، وهو أصل عظيم من أصول الدين ، وهو شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) .
فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة ، والدين بريء منه ، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة ) اهـ [ص399] .
4- قوله صلى الله عليه وسلم (( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه ، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً )) أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[انظر جامع الأصول 9/566].
قلت : وأولى ما يفسر به معنى " الهدى " في هذا الحديث ، أنه " السنة " ، ويقابله " الضلالة " وهي البدعة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم تواتر عنه تقسيم الأعمال إلى قسمين كقوله (( خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة )) و كقوله (( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين )) ثم قال (( وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة )) .
5- حديث الرهط الذين سألوا عن عبادته صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالُّوها ، فقال أحدهم : أما أنا فأصلي الليل أبداً ، وقال الآخر : أنا أصوم ولا أفطر ، وقال الثالث : أنا لا أتزوج أبداً .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (( أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني )) . رواه البخاري [ ح 5063 ] ومسلم [1401] .
قال الحافظ في الفتح [ 9/ 105 ] في معنى قوله " من رغب عن سنتي " ( المراد من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني ، ولمح بذلك إلى طريق الرهبانية فإنهم الذين ابتدعوا التشديد كما وصفهم الله تعالى ، وقد عابهم بأنهم ما وفوه بما التزموه ..) إلى أن قال ( وقوله " فليس مني" ، إن كانت الرغبة بضرب من التأويل يعذر صاحبه فيه ، فمعنى ( فليس مني ) أي : على طريقتي . ولا يلزم أن يخرج عن الملة .
وإن كان إعراضاً وتنطعاً يفضي إلى اعتقاد أرجحية عمله ، فمعنى " فليس مني " : ليس على ملتي ، لأن اعتقاد ذلك نوع من الكفر ) اهـ .
قلت : ودلالة الحديث ظاهرة على ذم الابتداع والتحذير منه ، وأن صاحبه ليس على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم ولا على هديه ، وهذا أبلغ في التحذير من النهي الصريح ، فإن لفظ ( ليس مني) أشد من لفظ ( لا تفعلوا كذا .. ) .
وإذا كان هذا حكمه صلى الله عليه وسلم فيمن بالغ في العبادة المشروعة كالصيام والقيام فكيف بمن ابتدع عبادة لم يشرعها صلى الله عليه وسلم ؟
ثم إنه لا يؤمن على من ابتدع بدعة والتزمها واجتهد فيها أن يصل به الحال إلى اعتقاد يجره إلى الكفر ، وهو الاعتقاد بأرجحية عمله على عمل النبي صلى الله عليه وسلم ، كما نبه إلى ذلك الحافظ ابن حجر فيما نقلته عنه .
وقد لحظ الصحابة هذا المعنى في إنكارهم الشديد على المبتدعة ، فقال ابن مسعود رضي الله عنه للذين اخترعوا طريقة للذكر ( والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد صلى الله عليه وسلم أو مفتتحوا باب ضلالة ... ) . وسيأتي ذكره بتمامه قريباً .
فنبههم إلى أن بدعتهم تلك قد تفضي بهم إلى اعتقاد أنهم أهدى من النبي صلى الله عليه وسلم .
وكذا قال الإمام مالك رحمه الله لمن استفتاه في أن يحرم من عند المسجد النبوي بدلاً من الإحرام من الميقات ( لا تفعل فإني أخاف عليك الفتنة ) فلما قال له الرجل ( وأي فتنة في هذا ؟ ) قال الإمام (وأي فتنة أعظم من أن ترى أن اختيارك لنفسك خير من اختيار الله واختيار رسوله صلى الله عليه وسلم) . انظر الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة [ ص 26 ] .
قلت : فهذا الرجل لم يصل به الأمر إلى الاعتقاد المحذور ، وهو ترجيح فعله على فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن الإمام مالكاً – رحمه الله – خاف عليه من أن ينجر إلى ذلك الاعتقاد الباطل .


فصل

وأما الآثار عن الصحابة في التحذير من الابتداع فهي أكثر من أن تحصر، فإنهم – رضي الله عنهم قد عاينوا ما أحدثه الناس في زمانهم ، فمن الأمثلة على ذلك :
1 - أبو بكر رضي الله عنه .
فقد رأى امرأة لا تتكلم ، فلما سأل عنها قالوا إنها حجت مصمتة . فقال لها أبو بكر رضي الله عنه (تكلمي فإن هذا لا يحل ، هذا من عمل الجاهلية ) رواه البخاري [ 3834 ] .
وذكر الحافظ ابن حجر في الفتح [ 7/150 ] أن في بعض الروايات أنها حلفت أن لا تتكلم ، ومع هذا فقد أمرها أبو بكر رضي الله عنه أن تتكلم لأن الصمت من بدع الجاهلية .
2- عمر رضي الله عنه .
فقد رأى أقواماً يقصدون مكاناً يصلون فيه بين مكة والمدينة فسألهم فقالوا ( مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم ) فقال ( إنما هلك من كان قبلكم أنهم اتخذوا آثار أنبيائهم بيعاً ، من مر بشيء من تلك المساجد فحضرت الصلاة فليصلِّ ، وإلا فليمض ) رواه عبدالرزاق في المصنف [ 2/118 ].
قلت : فقد أنكر الفاروق رضي الله عنه تحريهم الصلاة في الموضع الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن صلاته في ذلك الموضع لم تكن قصداً وإنما كانت عرضاً . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ( إن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم تكون بطاعة أمره ، وتكون في فعله بأن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعله ، فإذا قصد العبادة في مكان كان قصد العبادة فيه متابعة له ، كقصد المشاعر والمساجد . وأما إذا نزل في مكان بحكم الاتفاق لكونه صادف وقت النزول ، أو غير ذلك ، مما يعلم أنه لم يتحر ذلك المكان ، فإذا تحرينا ذلك المكان لم نكن متبعين له ، فإن الأعمال بالنيات ) اهـ . انظر اقتضاء الصراط المستقيم [ 2/745 ] .
قلت : فإذا كان هذا الحكم في مكان ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى فيه ، فكان قصد الصلاة فيه وتحريه بدعة ، فكيف بمكان مخترع أحدثه بعض الناس ثم جعلوه عيدا يقصدونه بالعبادة والذكر والصلاة والدعاء ، كما يفعله كثير من الجهال عند بعض المشاهد والقبور والآثار المنسوبة لبعض الصالحين ؟
يقول شيخ الإسلام ( فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها ولم تستحب الشريعة ذلك فهو من المنكرات ، وبعضه أشد من بعض ، سواء كانت البقعة شجرة أو عين ماء أو قناة جارية أو جبلاً أو مغارة ، وسواء قصدها ليصلي عندها أو ليدعو عندها أو ليقرأ عندها أو ليذكر الله سبحانه عندها أو ليتنسك عندها بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادة التي لم يشرع تخصيص تلك البقعة به لا عيناً ولا نوعاً ) ا هـ . انظر الاقتضاء [ 2/644] .
3 – عبدالله بن مسعود رضي الله عنه .
صح عنه أنه قال ( اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم . كل بدعة ضلالة ) انظر البدع لابن وضاح [ ص 43] وشرح السنة للبغوي [1/214] .
* وبلغه رضي الله عنه أن قوماً يجلسون في المسجد ينتظرون الصلاة متحلقين يسبحون بالحصى ، فجاء حتى وقف على حلقة من تلك الحلق فأنكر عليهم وقال ( والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد صلى الله عليه وسلم أو مفتتحوا باب ضلالة . قالوا : والله يا أبا عبدالرحمن ما أردنا إلا الخير . قال : وكم من مريد للخير لن يصيبه ... ) الخ . انظر سنن الدارمي [ 1/68 ] .
قلت : ورد في نهاية هذا الأثر قول الراوي "رأيت عامة أصحاب تلك الحلق يطاعنوننا يوم النهروان" أي مع الخوارج .
فانظر كيف آل بهم الحال من تلك البدعة ، التي هي مجرد هيئة وطريقة مخترعة في الجلوس والتحلق للذكر الجماعي ، إلى الوقوع في بدعة أعظم وهي بدعة الخوارج .
ولم ينكر ابن مسعود على هؤلاء فعل الخير من الذكر والتسبيح والتهليل والتكبير ولا الجلوس في المسجد ، فإن ذلك كله من السنن والفضائل ، لكن ابتداع الطريقة واختراع الهيئة هو المنكر.
فتنبه – رحمك الله – إلى هذا الفرق العظيم بين الأمرين ، لأنه مثار الخلاف بين الفريقين : أهل الاتباع وأهل الابتداع .
4 – عبدالله بن عمر رضي الله عنهما .
صح عنه قوله ( كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة ) . انظر الباعث على إنكار البدع والحوادث [ ص 17 ] .
قلت : وافق ابن عمر ، ومن قبله ابن مسعود ، رضي الله عنهما قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحكم على جميع البدع بالضلال دون استثناء أو تخصيص .
وفي قول ابن عمر هنا ( وإن رآها الناس حسنة ) رد على من قسم البدع والمحدثات إلى " حسنة " و " سيئة " .
وسيأتي مزيد تفصيل عن هذا التقسيم عند الكلام عن شبهات المبتدعة .
5 – أبو الدرداء رضي الله عنه .
جاء عنه أنه قال ( اقتصاد في السنة خير من اجتهاد في بدعة ) . انظر السنة للإمام اللالكائي [2/88].
6 – معاذ بن جبل رضي الله عنه .
ثبت عنه أنه قال ( إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن حتى يأخذه المؤمن والمنافق ، والرجل والمرأة ، والصغير والكبير ، والعبد والحر ، فيوشك قائل أن يقول : ما للناس لايتبعوني وقد قرأت القرآن ؟ ماهم بمتبعيَّ حتى أبتدع لهم غيره ، فإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة وأحذركم زيغة الحكيم فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم ، وقد يقول المنافق كلمة الحق .
قال الراوي : قلت لمعاذ : ما يدريني أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة ، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق ؟
قال معاذ : اجتنب من كلام الحكيم المشبَّهات التي يقال : ما هذه ؟ ولا يثنينك ذلك عنه فإنه لعله أن يراجع ، وتلقَّ الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً ) .
رواه أبو داود [4611] .
قلت : في هذا الأثر جملة فوائد :
* منها : ما نحن بصدده وهو التحذير من البدع عامة بقوله ( فإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة).
وهذه من صيغ العموم كما نص على ذلك علماء الأصول . انظر شرح الكوكب المنير في أصول الفقه لابن النجار [ 3/119 ] .
* ومنها : أن الحامل للمبتدع على إحداث البدع غالباً هو طلب الرئاسة على الناس ، لأن اقتصاره على المشروع وحده لم يفده في الرئاسة ، فلجأ إلى إحداث البدعة ليتبعه الناس .
* ومنها : اتباع الحق دون النظرإلى قائله ، حتى لو فرض أنه منافق ، ورد الباطل ولو كان قائله عالماً فاضلاً لأنه ليس معصوماً من الخطأ والزلل . وفي هذا أبلغ رد على من يقلد بعض الشيوخ في كل أقوالهم ولو خالفت النصوص الصريحة ، لا لشيء سوى التعصب لهم . وهذا حال أكثر الخلق إلا من رحم الله .
وقد تواتر عن السلف التحذير من اتباع زلات العلماء ، فمن ذلك ما رواه الدارمي [ ص71 ] بإسناده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال ( هل تعرف ما يهدم الإسلام ؟ يهدمه زلة العالم وجدال المنافق بالكتاب وحكم الأئمة المضلين ) .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال ( ألا لايقلدن أحدكم دينه رجلاً ، إن آمن آمن ، وإن كفر كفر ، فإن كنتم لابد مقتدين فبالميت ، فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة ) . انظر السنة للالكائي [1/ 93].
وقال ابن عباس رضي الله عنهما ( ويل للأتباع من عثرات العالم ) رواه ابن عبدالبر في الجامع [1877] .
وقال سليمان التيمي ( إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله ) رواه ابن عبدالبر في الجامع [ 1766 ] .
7 – عبدالله بن عباس رضي الله عنهما .
صح عنه قوله ( ما يأتي على الناس عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا سنة ، حتى تحيا البدع وتموت السنن ) رواه اللالكائي في السنة [ 1/92 ] .
8 – حذيفة بن اليمان رضي الله عنه .
صح عنه أنه قال ( يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقاَ بعيداَ ، فإن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاَ بعيداَ ) رواه البخاري [ 7282 ] .
قلت : فإذا كانت هذه وصية حذيفة رضي الله عنه للقراء ، وهم العلماء بالقرآن والسنة ، كما قال الحافظ في الفتح [ 13/257 ] ، فكيف بمن هو دونهم في العلم والفضل ؟ وإذا كان هذا تحذيره لعلماء الصحابة أو التابعين في ذلك الزمان ، أن يستقيموا على السنة ويلزموها ويتركوا المحدثات المضلة ، فكيف بمن جاء بعدهم ممن هو أقل علماَ وشأناَ وفضلاً ؟ .
قال الحافظ " والمراد أنه خاطب بذلك من أدرك أوائل الإسلام ، فإذا تمسك بالكتاب والسنة سبق إلى كل خير ، لأن من جاء بعده إن عمل بعمله لم يصل إلى ما وصل إليه من سبقه إلى الإسلام ، وإلا فهو أبعد منه حساً وحكماً " .
ثم قال الحافظ معلقاً على قول حذيفة ( فإن أخذتم يميناً وشمالاً .. ) الخ " أي خالفتم الأمر المذكور ، وكلام حذيفة منتزع من قوله تعالى { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } " ا هـ .
* ومن أقوال حذيفة رضي الله عنه المأثورة ( كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تعبدوها فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً ) انظر الباعث على إنكار البدع والحوادث [ص15] .
9 – غضيف بن الحارث رضي الله عنه .
قال ( بعث إلي عبد الملك بن مروان فقال : إنا قد جمعنا الناس على رفع الأيدي على المنبر يوم الجمعة وعلى القصص بعد الصبح والعصر . فقال غضيف أما إنهما أمثل بدعكم عندي ، ولست بمجيبكم إلى شيء منهما ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ما أحدث قوم بدعة إلا رفع من السنة مثلها ، فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة )) رواه أحمد [4/105] واللالكائي في السنة [ 2/90 ] وذكر الحافظ في الفتح [13/253] أن إسناده جيد .
قلت : وفي هذا الأثر عدة مسائل :
* منها : فُشُوُّ البدع في القرن الأول في عصر الصحابة ، فإن غضيف بن الحارث رضي الله عنه قال : " إنهما أمثل بدعكم عندي " وهذا يدل على أنه قد ظهرت بدع أخرى سوى رفع الأيدي في الخطب والقصص بعد الصبح والعصر ، فكيف بالقرون التالية والأزمنة المتأخرة ؟ .
* ومنها : إنكار البدع والمحدثات ، ولو كانت يسيرة وصغيرة ، فإنه أنكر البدعتين مع كونهما أهون من غيرهما .
وفي هذا رد على من يحصر الإنكار في البدع الكبار بحجة أن خطرها على الإسلام أعظم .
* ومنها : الصلابة في الحق والصدع به وعدم المداهنة فيه ، فإنه أنكر على الخليفة ولم يتابعه على خطئه ، وهذا كان دأب الصحابة وأئمة الهدى من بعدهم مع الخلفاء والأمراء ، بخلاف ما يفعله كثير من علماء الأزمنة المتأخرة ممن آثروا الدنيا على الآخرة ، وباعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل ، نسأل الله العافية والثبات على الحق والسنة حتى الممات .
قلت : ولننظر في حقيقة هاتين المحدثتين ، رفع الأيدي على المنابر، والقصص بعد الصبح والعصر ، ما وجه الإحداث فيهما ؟
* أما المسألة الأولى ، وهي رفع الأيدي في الدعاء في الخطب على المنابر ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعله إلا في الاستسقاء خاصة ، وكان في دعائه على المنبر لايزيد على أن يرفع السبابة في دعائه .
دل على ذلك حديث عمارة بن رويبة رضي الله عنه ، فقد رأى بشر بن مروان على المنبر رافعاً يديه فقال ( قبح الله تينك اليدين ، لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يزيد على أن يقول بيده هكذا – وأشار بأصبعه المسبِّحة ) رواه مسلم في صحيحه [874] وأبو داود [1104] بلفظ ( ما كان يزيد على هذه – يعني السبابة التي تلي الإبهام ) .
قلت : وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في خطبة الجمعة لما استسقى وقال (( اللهم أغثنا )) ورفع يديه في الاستصحاء وقال (( اللهم حوالينا ولا علينا )) والحديث متفق عليه . انظر جامع الأصول [ 6/195 ] .
وكان يرفع يديه في خطبة صلاة الاستسقاء ويبالغ في رفعهما حتى يُرى بياض إبطيه . والحديث متفق عليه . انظر جامع الأصول [ 6/ 207 ] .
وأما ما عدا ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه في الدعاء في مواطن كثيرة ، وهذا مما تواتر عنه وعن الصحابة .
فإذا كان أصل رفع اليدين في الدعاء سنة متواترة ، إلا أن فعله على المنبر فيما سوى الاستسقاء يعد بدعة محدثة من أجل هذا التخصيص فكيف بما سواه من البدع والمحدثات ؟
* والمسألة الثانية : القصص بعد الصبح والعصر ، والمراد به التذكير والموعظة بعد صلاتي الصبح والعصر ، كما ذكر الحافظ في الفتح [ 13 / 354 ] وذكر السبب في كونه محدثاً وهو تخصيصه في هذين الوقتين وجعله راتباً كخطبة الجمعة ، أما إذا فعل من غير قصد التخصيص فلا حرج في ذلك . وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتخول أصحابه بالموعظة . انظر صحيح البخاري [68] .
وصح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يذكِّر الناس في كل خميس ، ولما سألوه أن يذكِّرهم كل يوم استدل بالحديث المتقدم .
والظاهر أنه رضي الله عنه لم يقصد تخصيص يوم الخميس لوجود فضل فيه ، وإلا لكان محدثاً ، وإنما هو كاختيار أيام وأوقات لمجالس العلم ترتيباً ، لاتعبداً ، أو تخصيصاً بالحكم ، أو الفضل .
وقد ذكر البخاري حديث ابن مسعود هذا في ثلاثة مواضع من صحيحه ، وبوب له في الموضع الأول من كتاب العلم بقوله " باب ماكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا " . وفي الثاني بقوله " باب من جعل لأهل العلم أياماً معلومة " . وفي الثالث في كتاب الدعوات بقوله " باب الموعظة ساعة بعد ساعة " .
قال الحافظ في الفتح [ 1/163 ] ( وأخذ بعض العلماء من حديث الباب كراهة تشبيه غير الرواتب بالرواتب بالمواظبة عليها في وقت معين دائماً ، وجاء عن مالك ما يشبه ذلك ) ا هـ .
وقال الحافظ في الفتح [ 13 / 254 ] في تعليقه على كلام غضيف بن الحارث رضي الله عنه " وإذا كان هذا جواب هذا الصحابي في أمر له أصل في السنة ، فما ظنك بما لا أصل له فيها ؟ فكيف بما يشتمل على ما يخالفها ؟ " ا هـ .

فصل

وأما ما أثر عن التابعين وغيرهم من أئمة السلف في التحذير من البدع ، فهو متواتر مشهور ، فإنه كلما تباعد الزمان كثرت البدع والمحدثات ، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما ( ما يأتي على الناس عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا سنة ، حتى تحيا البدع وتموت السنن ) .
وقد شكا كثير منهم من غربة الدين والسنة في القرون المفضلة ، فكيف لو رأوا زماننا هذا ونحن في القرن الخامس عشر الهجري .
ومما أثر عن التابعين في ذلك :
1- الحسن البصري . وهو من مشاهير أئمة التابعين . جاءه رجل يسأله فقال ( يا أبا سعيد ما ترى في مجلسنا هذا ؟ قوم من أهل السنة والجماعة لا يطعنون على أحد ، نجتمع في بيت هذا يوماً وفي بيت هذا يوماً ، فنقرأ كتاب الله وندعوا ربنا ونصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وندعوا لأنفسنا ولعامة المسلمين ؟ فنهى الحسن عن ذلك أشد النهي ) انظر البدع لابن وضاح [ ص 48 ] .
2- أبو إدريس الخولاني . جاء عنه أنه قال ( لأن أرى في المسجد ناراً لا أستطيع أطفيها أحب إلي من أن أرى فيه بدعة لا أستطيع تغييرها ) انظر البدع لابن وضاح [ص83 ] .
3- حسان بن عطية . روي أنه قال ( ما أحدث قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها ، ثم لم يعدها إليهم إلى يوم القيامة ) انظر البدع لابن وضاح [ ص 85 ].
4- عمر بن عبدالعزيز . الخليفة الراشد الذي أحيا الله به سنن الخلفاء الراشدين وأمات به بدع الخلفاء الأمويين .
روى اللالكائي بإسناده عن أبي المليح قال ( كتب عمر بن عبدالعزيز بإحياء السنة وإماتة البدعة ) [1/56 ] .
* ومما أثر عنه رضي الله عنه قوله المشهور ( سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سنناً الأخذ بها تصديق لكتاب الله عز وجل واستكمال لطاعته وقوة على دين الله ، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في رأي من خالفها ، فمن اقتدى بما سنوا اهتدى ، ومن استبصر بها بصر ، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله عز وجل ما تولاه وأصلاه جهنم وساءت مصيراً) انظر السنة للالكائي [ 1/94 ] والإبانة [ 1/97 ] .
* وأثر عنه قوله في وصيته الجامعة التي أجاب بها من سأله عن بدعة القدرية ( أما بعد ، أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وترك ما أحدث المحدثون بعد ما جرت به سنته ، وكفوا مؤنته ، فعليك بلزوم السنة فإنها لك – بإذن الله – عصمة . ثم اعلم أنه لم يبتدع الناس بدعة إلا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها أو عبرة فيها ، فإن السنة إنما سنها من قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق ، فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم ، فإنهم على علم وقفوا ، وببصر نافذ كفوا ، وهم على كشف الأمور كانوا أقوى ، وبفضل ما كانوا فيه أولى ، فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه ، ولئن قلتم : إنما حدث بعدهم، ما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم ، فإنهم هم السابقون ، فقد تكلموا فيه بما يكفي ... ) إلخ . انظر سنن أبي داود [ 4612 ].
ومما أثر عن الأئمة من بعد التابعين في ذلك :
1- الإمام مالك رحمه الله . وقد كان يتمثل بقول عمر بن عبدالعزيز المتقدم ( سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سنناً ... ) إلخ . انظر حلية الأولياء لأبي نعيم [ 6/ 324 ] .
* وصح عنه أنه قال ( التثويب بدعة ) رواه ابن وضاح في البدع [ 88 ] .
وذكر الشاطبي في الاعتصام [ 2/53] أن التثويب الذي بدّعه الإمام مالك هو ما أحدثه بعض المؤذنين بين الأذان والإقامة من قولهم ( قد قامت الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح ) فهو شيء زائد على الأذان والإقامة .
* وذكر الشاطبي في الاعتصام [ 1/49 ] قول الإمام مالك المشهور ( من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة ، لأن الله يقول { اليوم أكملت لكم دينكم } فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً ) اهـ .
* وقال ابن وضاح ( وقد كان مالك يكره كل بدعة وإن كانت في خير ) .
* وذكر ابن وضاح أن الإمام مالكاً وغيره من علماء المدينة كانوا يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ما عدا قباء وأحداً .
* وروى ابن وضاح بإسناده عن الإمام مالك أنه سئل عن قراءة { قل هو الله أحد } مراراً في ركعة ، فكره ذلك وقال ( هذا من محدثات الأمور التي أحدثوها ) . انظر البدع لابن وضاح [92- 94].
* ونقل الشاطبي في الاعتصام [ 1/85 ] أن الإمام مالكاً كان كثيراً ما ينشد:
وخير أمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع
* وقد تقدم ذكر قصة الرجل ، الذي استفتاه في الإحرام من المسجد النبوي بدلاً من الميقات ، وإنكار الإمام عليه .
2- الفضيل بن عياض رحمه الله . روى ابن بطة بإسناده عنه قوله ( عمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة ) الإبانة [ 1/100 ] .
* ومن أقواله المشهورة ( اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين ) انظر الاعتصام [ 1/ 83 ] .
قلت : وأكثر احتجاج أهل البدع بالكثرة ، سواء كانت كثرة العامة والجهال أم كثرة المنتسبين إلى العلم والفقه ، مع أن الحجة إنما هي في الأدلة الشرعية .
3- الإمام الشافعي رحمه الله . قال الإمام أحمد عنه ( ما رأيت أحداً أتبع للأثر من الشافعي ) حلية الأولياء [ 9/100 ] .
* وقال أبو ثور ( ما تركنا بدعتنا حتى رأينا الشافعي ) . الحلية [ 9/103 ] .
* قال أبو نعيم صاحب الحلية ( كان الإمام الشافعي رضي الله عنه للآثار والسنن تابعاً ، وفي استنباط الأحكام والأقضية رائعاً ، وبالمقاييس المبنية على الأصول قائلاً ، وعن الآراء الفاسدة المخالفة للأصول عادلاً ) [ 9/109 ] .
* وروى أبو نعيم بإسناده عن الشافعي أنه قال ( لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير من أن يلقاه بشيء من الأهواء ) الحلية [9/111 ] .
* وروى أيضاً بإسناده عن الحسن بن محمد أنه قال عن الشافعي ( كان ينهى عن الجدل والكلام فيه ويذم أهل البدع ... ) الحلية [ 9/115 ].
* وروى بإسناده عن الربيع قال : سمعت الشافعي يقول ( رأيي ومذهبي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد ويجلسوا على الجمال ويطاف بهم في العشائر والقبائل وينادى عليهم : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام ) . الحلية [9/116].
قلت : وإنما أكثرت النقول عن الإمام الشافعي في مسألة البدع ، للرد على الذين يحتجون بقوله رحمه الله في تقسيم البدعة إلى قسمين ، وسيأتي الرد على هذه الشبهة وشرح معنى كلام الإمام بما يوافق النصوص المتقدمة من الكتاب والسنة والآثار في ذم البدعة عموماً دون تخصيص ولا تقسيم .
هذا وقد نصَّ الإمام الشافعي على ترك قوله ومذهبه ، إذا خالف حديث النبي صلى الله عليه وسلم .
* فمن ذلك قوله ( كلما قلت ، وكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح فحديث النبي صلى الله عليه وسلم أولى ولا تقلدوني ) .
* وقوله ( إذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت قولاً فأنا راجع عن قولي وقائل بذلك ) .
* وقوله ( إذا وجدتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد ) . انظر الحلية [ 9/107] .
فلو فرض أن الشافعي رحمه الله امتدح بعض البدع الشرعية ، حين قسمها إلى قسمين : مذموم ومحمود ، فإن الواجب تقديم الحديث على قوله كما نصّ على ذلك رحمه الله .
4 – الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله . روى اللالكائي في السنة [ 1/156] بإسناده عنه أنه قال ( أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم وترك البدع ، وكل بدعة فهي ضلالة ...) .

فصل
المصنفات في البدع

وأكتفي بما نقلته من آثار عن الأئمة في ذم البدع والمحدثات ، ومن أراد الاستزادة فيمكنه الرجوع إلى كتب " السنة " المشهورة ، أعني كتب العقائد ، أو الكتب التي اختصت بذكر البدع والتحذير منها ، وأشهرها كتاب " الاعتصام " للإمام إبراهيم بن موسى الغرناطي الشهير بالشاطبي، المتوفى سنة 790هـ .
وامتاز كتابه هذا بذكر أصول وقواعد يفرق فيها بين السنة والبدعة ، بحيث يرجع إليها طالب العلم إن أراد الحكم على عمل ما مما اختلف فيه الناس هل هو محدث مردود أم هو مقبول يرجع إلى أصل من أصول الشرع ، كالمصالح المرسلة .
وذكر فيه قواعد هامة في الفرق بين البدعة وبين المصلحة المرسلة والاستحسان ، وكثيراً ما يحصل الخلط بين المسائل الثلاث لدى المخالفين المستحسنين للبدع .
وعقد فصلاً نقل فيه أكثر شبهات المخالفين التي احتجوا بها على تحسين بدعهم ومحدثاتهم ، ونقضها شبهة شبهة بالنقل والعقل .
ومن المصنفات في البدع كذلك ، كتاب الإمام محمد بن وضاح القرطبي المتوفى سنة 287 هـ ، وهو صغير الحجم عظيم الفائدة ذكر فيه جملة من المسائل في البدع ، وقد طبع باسم " ما جاء في البدع " .
ومثله كتاب " الحوادث والبدع " للإمام أبي بكر الطرطوشي المتوفى سنة 520 هـ ، وقد نقل عنه الإمام أبوشامة المقدسي المتوفى سنة 665هـ في كتابه " الباعث على إنكار البدع والحوادث " وزاد عليه مسائل .
ومن المصنفات المعاصرة المشهورة كتاب " الإبداع في مضار الابتداع " للشيخ علي محفوظ عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، وكتابه هذا مقرر في كلية أصول الدين بالأزهر كما ذكر في مقدمة الكتاب.
وقد جمع فيه المؤلف خلاصة الكتب السابقة وزاد عليها فوائد كثيرة وأمثلة عديدة من البدع والمحدثات المعاصرة وذكر المؤلف أنه فرغ من تأليفه عام 1341هـ .
وقسم كتابه هذا إلى فصول ابتدأها بالكلام على معنى البدعة ، ونقل تعريفها من كتاب الاعتصام للشاطبي ، وبعد ذلك فصّل البدع إلى أنواع : بدع المساجد – بدع المقابر – بدع الجنائز – بدع الموالد – بدع الأعياد والمواسم – البدع الواقعة في العبادات ... وهكذا .
وقد صنف شيخ الإسلام أحمد بن تيمية مصنفات جليلة في رد البدع والمحدثات ودحض شبهات المخالفين ، ومنها كتابه المشهور " اقتضاء الصراط المستقيم " حيث ذكر فيه بدع الأعياد الزمانية والمكانية ، كما أفرد مسألة شد الرحال إلى زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره من القبور بكتاب مستقل سماه " الجواب الباهر" ، وأفرد الكلام على بدع التوسل والشفاعة بكتاب " قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة " .
و لابن القيم مصنفات في رد البدع والمحدثات ، ومنها كتاب : " إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان .
ومن مصنفات ابن الجوزي في هذا الباب أيضاً ، كتاب " تلبيس إبليس " .


فصل
تعريف البدعة
الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، فلا يمكن أن نحكم على عمل ما بأنه بدعة حتى نتصور معنى البدعة وما المراد منها عند الإطلاق أو التعيين . وأكثر من يقع في البدع العملية إذا أنكرت عليه بدعته إنما يرد عليك إنكارك ويتعجب منه لعدم تصوره لمفهوم البدعة ، وهذا الجهل ليس خاصاً بالعوام في العصور المتأخرة ، بل وجد في عصر الصحابة رضوان الله عليهم ، كما مر معنا في قصة ابن مسعود مع المتحلقين في المسجد للذكر ، حيث عجبوا من إنكاره عليهم .
وقد اختلف في تعريف البدعة :
فقال ابن منظور في لسان العرب [8/6] " بدع الشيء يَبْدَعه بَدْعاً وابتدعه : أنشأه وبدأه . وبدع الركيَّة : استنبطها وأحدثها ... والبديع والبِدْع : الشيء الذي يكون أولاً. وفي التنزيل { قل ما كنت بدعاً من الرسل } أي : ما كنت أول من أرسل ، قد أرسل قبلي رسل كثير .
والبدعة : الحدث وما ابتدع من الدين بعد الإكمال ... " اهـ . باختصار .
وعرَّف الإمام أبو بكر الطرطوشي البدعة فقال ( فإن قيل : ما معنى أصل البدعة ؟ قلنا : أصل هذه الكلمة من الاختراع ، وهو الشيء يحدث من غير أصل سبق ولا مثال احتُذي ولا ألِفَ مثله ، ومنه قولهم : أبدع الله الخلق ، أي : خلقهم ابتداءً . ومنه قوله تعالى { بديع السموات والأرض } .
وهذا الاسم يدخل فيما تخترعه القلوب وفيما تنطق به الألسنة وفيما تفعله الجوارح . والدليل على هذا ما سنذكره في أعيان الحوادث من تسمية الصحابة رضي الله عنهم وكافة العلماء بدعاً للأقوال والأفعال " ا هـ . انظر الحوادث والبدع [ ص 34 ] .
ونقل الإمام أبوشامة كلام الطرطوشي ثم قال " وقد غلب لفظ البدعة على الحدث المكروه في الدين مهما أطلق هذا اللفظ ، ومثله لفظ المبتدع ، لايكاد يستعمل إلا في الذم .
وأما من حيث أصل الاشتقاق فإنه يقال ذلك في المدح والذم ، لأن المراد أنه شيء مخترع على غير مثال سبق ... " ا هـ . باختصار . انظر الباعث [ ص 24 ] .
وقال ابن الأثير في شرح حديث (( إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة )) ما نصه [ " محدثات الأمور " مالم يكن معروفاً في كتاب ولا سنة ولا إجماع. " بدعة " الابتداع : إذا كان من الله وحده فهو إخراج الشيء من العدم إلى الوجود ، وهو تكوين الأشياء بعد أن لم تكن ، وليس ذلك إلا إلى الله تعالى . فأما الابتداع من المخلوقين ، فإن كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله فهو في حيز الذم والإنكار ، وإن كان واقعاً تحت عموم ما ندب الله إليه وحض عليه أو رسوله ، فهو في حيز المدح ، وإن لم يكن مثاله موجوداً ، كنوع من الجود والسخاء ، وفعل المعروف ، فهذا فعل من الأعمال المحمودة لم يكن الفاعل قد سبق إليه ، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل له في ذلك ثواباً فقال (( من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها )) وقال في ضده (( من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها)) .
وذلك إذا كان في خلاف ما أمرالله به ورسوله . ويعضد ذلك قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صلاة التراويح ( نعمت البدعة هذه ) لما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح سماها بدعة ومدحها ، وهي وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد صلاها إلا أنه تركها ولم يحافظ عليها ، ولا جمع الناس عليها ، فمحافظة عمر عليها وجمعه الناس لها وندبهم إليها بدعة ، لكنها بدعة محمودة ممدوحة ] اهـ من جامع الأصول [1/280] .
قلت : وهذا الذي ذكره الإمام ابن الأثير يحتاج إلى توضيح ، ثم هو ليس تعريفاً للبدعة بقدر ماهو شرح لها ، وفرق بين التعريف والحد ، وبين الشرح والتفسير .
وكلامه عن البدعة فيه اشتباه ، قد يحمل على غير المعنى الذي قصده .
فقوله : إن الابتداع إن كان في خلاف المأمور به فهو مذموم وإن كان واقعاً تحت عموم المأمور به فهو ممدوح ، يمكن أن يحتج به المخالف لتحسين بدعته ، فيقول : إن بدعته واقعة تحت عموم المأمور به فهي محمودة غير مذمومة .
ولم يقصد ابن الأثير هذا المعنى لأنه ضرب مثالاً للممدوح من البدع ، وهو ما كان من المعروف والجود والسخاء ، وهذا في الحقيقة ليس من البدع بل من الوسائل لبذل المعروف والخير والصدقات .
يؤيده قوله في أول الشرح في معنى المحدثات " ما لم يكن معروفاً في كتاب ولا سنة ولا إجماع " ، فقصده : الوسائل التي لم يُنص عليها بعينها ، وهي ما يسمى بالمصالح المرسلة .
وسيأتي الكلام عن قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه " نعمت البدعة هذه " عند الرد على شبهات المخالفين ، وبيان أنه قصد البدعة اللغوية لا الشرعية .
* وأحسن من حدَّ البدعة وعرَّفها تعريفاً جامعاً مانعاً على نمط سائر المصطلحات الشرعية ، هو الإمام الشاطبي في " الاعتصام " ، وزاد الأمر وضوحاً وجلاءً بشرحه للتعريف كلمة كلمة ، وقد اعتمده أكثر المتأخرين ، ومنهم الشيخ علي محفوظ في " الإبداع " .
تعريف الشاطبي للبدعة
قال رحمه الله بعد أن ذكر معنى البدعة في اللغة " فالبدعة إذاً عبارة عن : طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه " .
ثم شرح التعريف بقوله " فالطريقة ، والطريق والسبيل والسنن ، هي بمعنى واحد ، وهو ما رسم للسلوك عليه .
وإنما قيدت بالدين ، لأنها فيه تخترع وإليه يضيفها صاحبها . وأيضاً فلو كانت طريقة مخترعة في الدنيا على الخصوص لم تسمَّ بدعة ، كإحداث الصنائع والبلدان التي لاعهد بها فيما تقدم .
ولما كانت الطرائق في الدين تنقسم ، فمنها ماله أصل في الشريعة ، ومنها ما ليس له أصل فيها ، خُصَّ منها ما هو المقصود بالحد ، وهو القسم المخترع ، أي : طريقة ابتدعت على غير مثال تقدمها من الشارع ... وبهذا القيد انفصلت عن كل ما ظهر لبادي الرأي أنه مخترع مما هو متعلق بالدين ، كعلم النحو والتصريف ومفردات اللغة وأصول الفقه وأصول الدين ، وسائر العلوم الخادمة للشريعة .
فإنها وإن لم توجد في الزمان الأول فأصولها موجودة في الشرع ، إذ الأمر بإعراب القرآن منقول ، وعلوم اللسان هادية للصواب في الكتاب والسنة ، فحقيقتها إذاً أنها فقه التعبد بالألفاظ الشرعية الدالة على معانيها كيف تؤخذ وتؤدى .
وأصول الفقه إنما معناها: استقراء كليات الأدلة حتى تكون عند المجتهد نصب عين وعند الطالب سهلة الملتمس .
فإن قيل : فإن تصنيفها على ذلك الوجه مخترع . فالجواب: أن له أصلاً في الشرع، ففي الحديث ما يدل عليه ، ولو سلم أنه ليس له في ذلك دليل على الخصوص فالشرع بجملته يدل على اعتباره ، وهو مستمد من قاعدة المصالح المرسلة ، وسيأتي بسطها بحول الله ... "
إلى أن قال " وقوله: تضاهي الشرعية، يعني أنها تشابه الطريقة الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك ، بل هي مضادة لها من أوجه متعددة :
* منها : التزام الكيفيات والهيئات المعينة ، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد، واتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عيداً ، وما أشبه ذلك .
* ومنها : التزام العبادات المعينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة ، كالتزام صيام يوم النصف من شعبان وقيام ليلته " .
إلى أن قال " وقوله : يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى ، هو تمام معنى البدعة إذ هو المقصود بتشريعها .
وذلك أن أصل الدخول فيها يحث على الانقطاع إلى العبادة والترغيب في ذلك ، لأن الله تعالى يقول { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ، فكأن المبتدع رأى أن المقصود هذا المعنى ، ولم يتبين له أن ما وضعه الشارع فيه من القوانين والحدود كافٍ ...." .
إلى أن قال " وأيضاً فإن النفوس قد تمل وتسأم من الدوام على العبادات المرتبة ، فإذا جدد لها أمر لا تعهده ، حصل لها نشاط آخر لايكون لها مع البقاء على الأمر الأول . ولذلك قالوا = لكل جديد لذة = بحكم هذا المعنى ، كمن قال ( تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور ) فكذلك ( تحدث لهم مرغبات في الخير بقدر ما حدث لهم من الفتور ) .
ثم قال " وفي الحد أيضا معنىً آخر مما ينظر فيه ، وهو أن البدعة من حيث قيل فيها : إنها طريقة في الدين مخترعة .. الخ ، يدخل في عموم لفظها البدعة التَّركيَّة ، فقد يقع الابتداع بنفس الترك تحريماً للمتروك أو غير تحريم ، فإن الفعل – مثلاً – قد يكون حلالاً بالشرع فيحرمه الإنسان على نفسه أو يقصد تركه قصداً ... "
" فإن كان الترك تديناً ، فهو الابتداع في الدين ، لأن بعض الصحابة همَّ أن يحرم على نفسه النوم بالليل ، وآخر الأكل بالنهار ، وآخر إتيان النساء ، وبعضهم همًّ بالاختصاء ، ‘ مبالغة في ترك شأن النساء . وفي أمثال ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (( من رغب عن سنتي فليس مني )) .
فإذاً : كل من منع نفسه من تناول ما أحل الله من غير عذر شرعي فهو خارج عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم . والعامل بغير السنة تديناً هو المبتدع بعينه " ا هـ .
باختصار من الاعتصام [ 1/37 – 44 ] .



فصل
البدعة الحقيقية والإضافية

ذكر الشاطبي في الاعتصام أن البدعة إما أن تكون حقيقية ، وهي التي لا يستند صاحبها إلى دليل البتة ، لا من كتاب ولا سنة ولا إجماع ، وإنما هو محض اختراع ، ومن أمثلتها ما أحدثه أصحاب الفرق الخارجة عن الفرقة الناجية ، من أقوال واعتقادات وأفعال .
وأما البدع الإضافية ، فهي التي لها شائبتان : إحداهما : لها من الأدلة متعلق ، فهي مستندة إلى أصل كالذكر والصلاة والصيام والقراءة والدعاء .. وغيرذلك . والأخرى : ليس لها دليل على تخصيصها بكيفية أو بزمان أو بمكان أو بعدد ، فإن هذا التخصيص ليس له أصل في الدين فمن هنا صار الفعل بدعة .
قال الشاطبي " فإذا ندب الشرع مثلاً إلى ذكر الله ، فالتزم قوم الاجتماع عليه على لسان واحد وبصوت ، أو في وقت معلوم مخصوص عن سائر الأوقات ، لم يكن في ندب الشرع ما يدل على هذا التخصيص الملتزم ، بل فيه ما يدل على خلافه ، لأن التزام الأمور غير اللازمة شرعاً شأنها أن تفهم التشريع .
وعلى ذلك ترك التزام السلف الصالح لتلك الأشياء ، أو عدم العمل بها ، وهم كانوا أحق بها وأهلها ، لو كانت مشروعة على مقتضى القواعد .
لأن الذكر قد ندب إليه الشرع ندباً في مواضع كثيرة ، حتى إنه لم يطلب في تكثير عبادة من العبادات ما طلب من التكثير من الذكر ، كقوله تعالى { اذكروا الله ذكراً كثيراً } .
ومثل هذا : الدعاء ، فإنه ذكر لله . ومع ذلك فلم يلتزموا فيه كيفيات ولا قيدوه بأوقات مخصوصة بحيث تشعر باختصاص التعبد بتلك الأوقات ، إلا ما عينه الدليل كالغداة والعشي ، ولا أظهروا منه إلا ما نص الشارع على إظهاره ، كالذكر في العيدين وشبهه . وما سوى ذلك فكانوا مثابرين على إخفائه وسره ، ولذلك قال لهم حين رفعوا أصواتهم (( اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً )) . فكل من خالف هذا الأصل فقد خالف إطلاق الدليل أولاً ، لأنه قيد فيه بالرأي ، وخالف من كان أعرف منه بالشريعة ، وهم السلف الصالح رضي الله عنهم " ا هـ باختصار
[1/249-250].
قلت : ومسألة التخصيص في العبادات ، كالصلاة والصيام والذكر والدعاء وغيرها ، بزمان أو بمكان أو هيئة أو عدد أو سبب ، بما لم يرد فيه نص شرعي على ذلك التخصيص ، قد نبه عليها كثير من العلماء في الكلام على المحدثات والبدع .
قال أبوشامة " وقيام الليل مستحب في جميع ليالي السنة ، وإنما المحذور المنكر تخصيص بعض الليالي بصلاة مخصوصة على صفة مخصوصة " . انظر الباعث [ص55] .
وقال في موضع آخر [ ص 137 ] " ومما ابتدع في قيام رمضان في الجماعة قراءة سورة الأنعام جميعها في ركعة واحدة يخصونها بذلك في آخر ركعة من التراويح ليلة السابع أو قبلها " .
ومن ذلك أيضاً : السجود لله من غير سبب ، قال أبو شامة " ولا يلزم من كون السجود قربة في الصلاة أن تكون قربة خارج الصلاة ، كالركوع " .
ثم نقل أبوشامة كلام العز بن عبدالسلام في ذلك فقال " قال الفقيه أبو محمد : لم ترد الشريعة بالتقرب إلى الله تعالى بسجدة منفردة لا سبب لها ، فإن القُرب لها أسباب وشرائط وأوقات وأركان لا تصح بدونها ، فكما لا يتقرب إلى الله تعالى بالوقوف بعرفة ومزدلفة ورمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة من غير نسك واقع في وقته بأسبابه وشرائطه ، فكذلك لا يتقرب إلى الله تعالى بسجدة منفردة ، وإن كانت قربة ، إلا إذا كان لها سبب صحيح ، وكذلك لا يتقرب إلى الله تعالى بالصلاة والصيام في كل وقت وأوان ، وربما تقرب الجاهلون إلى الله تعالى بما هو مُبْعِدٌ عنه من حيث لا يشعرون " ا هـ . الباعث [ 95 – 96 ] .
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ما يفعله بعض الناس من تخصيص ليلة النصف من شعبان بقيام ونهاره بصيام فقال " فأما صوم يوم النصف مفرداً فلا أصل له ، بل إفراده مكروه ، وكذلك اتخاذه موسماً تصنع فيه الأطعمة وتظهر فيه الزينة هو من المواسم المحدثة المبتدعة التي لاأصل لها .
وكذلك ما قد أحدث في ليلة النصف من الاجتماع العام للصلاة الألفية في المساجد الجامعة ومساجد الأحياء والدروب والأسواق ، فإن هذا الاجتماع لصلاة نافلة ، مقيد بزمان وعدد وقدر من القراءة لم يشرع مكروه ..."
إلى أن قال " وعليك أن تعلم أنه : إذا استُحِبَّ التطوع المطلق في وقت معين ، وجُوِّز التطوع في جماعة ، لم يلزم من ذلك تسويغ جماعة راتبة غير مشروعة ، ففرق بين البابين ، وذلك أن الاجتماع لصلاة تطوع أو استماع قرآن أو ذكرالله ، ونحو ذلك ، إذا كان يُفعل أحياناً ، فهذا حسن . فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى التطوع في جماعة أحياناً ، وخرج على أصحابه وفيهم من يقرأ وهم يستمعون فجلس معهم يستمع . وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحداً يقرأ وهم يستمعون . وقد ورد في القوم الذين يجلسون يتدارسون كتاب الله ويتلونه ، وفي القوم الذين يذكرون الله من الآثار ما هو معروف ، مثل قوله صلى الله عليه وسلم (( ما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا غشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده )) . فأما اتخاذ اجتماع راتب يتكرر بتكرر الأسابيع أو الشهور أو الأعوام ، غير الاجتماعات المشروعة ، فإن ذلك يضاهي الاجتماع للصلوات الخمس وللجمعة وللعيدين وللحج ، وذلك هو المبتدع المحدث ... " ا هـ . انظر الاقتضاء [2/628-630 ] .
قلت : وفي كلام شيخ الإسلام عدة مسائل ، منها :
1 – ما نحن بصدده ، وهو تخصيص يوم بصوم أو ليلة بقيام ، لم يرد في الشرع تخصيصه .
2 – الفعل المشروع الذي ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله أو أصحابه أحياناً ولم يداوم عليه ولم يجعله راتباً ، فإنه يُفعل كذلك أحياناً ، وأما المداومة عليه فهو خلاف السنة .
وقد تقدم التنبيه على ذلك عند شرح أثر غضيف بن الحارث في إنكاره على عبدالملك ابن مروان تخصيص الصبح والعصر بالقصص والمواعظ .
فإذا كان ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً لايصح أن يُتخذ راتباً ولا دواماً ، فكيف بأمر لم يفعله أصلاً ، ومع ذلك اتخذه الناس سنة راتبة تفعل على الدوام في الأسابيع أو الشهور أو السنين وتتكرر بتكرر الأزمان ؟!
وقد تقدم نقل كلام الحافظ ابن حجر في شرح حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخول أصحابه بالموعظة ، حيث قال " وأخذ بعض العلماء من حديث الباب كراهة تشبيه غير الرواتب بالرواتب بالمواظبة عليها في وقت معين دائما ".
وكذا قال الحافظ معلقاً على أثر غضيف بن الحارث في إنكاره القصص بعد صلاتي الصبح والعصر " والمراد بالقصص التذكير والموعظة ، وقد كان ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، لكنه لم يكن يجعله راتباً كخطبة الجمعة ، بل بحسب الحاجة " ا هـ . انظر فتح الباري [ 13 / 254 ] .
ونقل ابن رجب أثر غضيف بن الحارث هذا ، وتبديعه للقصص ، وذكر أن الحسن البصري بدعه كذلك ، ثم قال " وإنما عنى هؤلاء بأنه بدعة الهيئة الاجتماعية عليه في وقت معين ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له وقت معين يقص على أصحابه فيه غير خطبته الراتبة في الجمع والأعياد ، وإنما كان يذكرهم أحياناً ، أو عند حدوث أمر يحتاج إلى التذكير عنده ... " ا هـ . جامع العلوم والحكم [ص 400].

فصل
معنى السنة

قلت : ولمزيد بيان معنى البدعة يَحسُن أيضاً معرفة ما يقابلها ، وهو " السنة "،
فالضد يظهر حسنه الضد وبضدها تتميز الأشياء
وأنا أسوق كلام علماء الأصول في حدِّ السنة لغة واصطلاحاً :
" السنة لغة : الطريقة . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم من سنَّ سنة حسنة فله أجرها .. الخ .
والسنة هي : السيرة ، حميدة كانت أو ذميمة .
والسنة في الاصطلاح ، أي اصطلاح أهل الشرع هي : قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وإقراره وهمُّه .
* فالقول : يدخل فيه أيضا الكتابة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر أصحابه أحياناً بكتابة بعض أقواله .
* والفعل : ويدخل فيه أيضاً الإشارة ، وعمل القلب ، ويدخل فيه الترك أيضاً . فإرادة الفعل سنة ، فإنه صلى الله عليه وسلم ربما أراد الشيء ولم يفعله لعارض أو لسبب ، فإذا زال العارض والسبب كان الفعل سنة ، كإرادته نقض البيت وبناءه على قواعد إبراهيم عليه السلام .
وكإرادته تأخير صلاة العشاء إلى ثلث الليل ، لكنه خشي المشقة على أمته .
وأما الترك : فإذا نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ترك كذا ، كان أيضاً من السنة الفعلية .
وأما الإقرار : فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع شيئاً أو رآه أو بلغه ولم ينكره صلى الله عليه وسلم فيعد هذا إقراراً منه ، وهو سنة .
وقد يعبر عنه بعض الأصوليين بالسكوت ، كما صرح الصحابة بسكوته صلى الله عليه وسلم عن أشياء إقراراً منه على الفعل أو القول " ا هـ .
انظر مبحث : " السنة " في شرح الكوكب المنير وإرشاد الفحول والموافقات .
قلت : وفي مسألة " الترك " تفصيل يطول شرحه ، لكنه مهم في باب التفريق بين " السنة " و" البدعة " لأن إنكار البدع مبني على ترك النبي صلى الله عليه وسلم لفعلها ، مع وجود المقتضي وانتفاء المانع .
وأنا أنقل لك خلاصة ما ذكره الشيخ محمد الأشقر في كتابه " أفعال الرسول " فإنه فصل القول في مسألة " الترك " ، فقال ( الترك في اللغة : ودع الشيء وتخليته . وهو نوعان : ترك مقصود ، وترك غير مقصود .
فالترك غير المقصود : سلب محض ، وليس موضعاً للقدوة ولا يستدل به على طريقة الاستدلال بالأفعال لعدم دلالته على جواز ولا كراهة ولا تحريم .
وأما الترك المقصود : فهو الذي يُعبًَّر عنه بالكف ، أو الإمساك أو الامتناع .
والأحكام التي تُبيَّن بالفعل هي الواجب والمندوب والمباح ، وأما الأحكام التي تُبيَّن بالترك فهي المحرم والمكروه والمباح ، ويضاف إليه أيضاً المستحب ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد يترك الشيء خشية أن يُظنّ أنه واجب ، فيكون تركه له بياناً منه أنه مستحب .
وإذا فرَّق النبي صلى الله عليه وسلم بين بعض العبادات وبعض ، ففعل في نوع منها أشياء واظب عليها ، وترك تلك الأشياء في نوع آخر ، فإنه يُتَّبع في ذلك ، ويكون الترك كالنص على أنه لا يُفْعَل.
ونضرب لذلك مثالين :
الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤذ َّن له للصلوات الخمس ، ولكن لا يؤذ َّن لصلاة العيد ، ولا لصلاة الخسوف ، ولا لصلاة الاستسقاء .
فتركه للأذان في هذه الجماعات مع وجود المقتضي للفعل ، وهو إعلام الناس بالوقت ليشهدوا الصلاة ، وزوال المانع من ذلك ، يعد سنة ، كما أن فعله للأذان في الجمعة سنة .
المثال الثاني : ترك النبي صلى الله عليه وسلم الجهر في بعض الركعات في المغرب والعشاء ، فهذا الترك سنة ، كما أن الجهر في مواضع الجهر سنة ) ا هـ . باختصار[2/47-54] .
قلت : فكما أن السنة هي الطريقة الشرعية التي أمرنا أن نسلكها للتعبد فعلاً وتركاً ، فإن البدعة هي الطريقة التي تضاهي الشرعية التي يلزمنا تركها واجتنابها .
وخلاصة ما ذكر في مسألة الترك :
* أن ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم قصداً إن داوم على تركه ، فالسنة هي المداومة على الترك ، وإن تركه أحياناً ، فالسنة تركه أحياناً .
* وأن ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم قصداً ، مع وجود المقتضي لفعله ، وزوال المانع من فعله ، فإن تركه سنة .
* وأنه لايشترط أن يقترن بهذا الترك نهي صريح منه صلى الله عليه وسلم ، فإنه لم يقل لا تؤذنوا لصلاة العيد ، ولا تجهروا في الركعات السرية ، وإنما اكتفى بترك ذلك .
* وفقه هذه المسألة ، يسهِّل معرفة " البدعة " ، لأنها مبنية عليها .


فصل
الفرق بين النوافل المطلقة والرواتب المقيدة

السنن تنقسم إلى أقسام :
1 - فمنها : النوافل المطلقة ، وهي التي لم يُحدّد لها وقت أو عدد ، غير أنها لا تُفعل في أوقات النهي . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها في السفر والحضر ، وربما تركها لغير عارض .
2 - ومنها السنن الراتبة ، التي داوم عليها صلى الله عليه وسلم في الحضر ، ووقت لها وقتاً وعدداً ، كرواتب الصلاة المعروفة .
وأما في السفر فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي من الرواتب إلا الوتر وركعتي الفجر.
3 - ومن السنن ما اختص بسبب ، مثل صلاة الاستسقاء والكسوف ، فلو فعلها الشخص من غير وجود سببها فقد ابتدع .
قال الإمام الشاطبي ( فإذا اجتمع في النافلة أن تلتزم التزام السنن الرواتب ، إما دائماً ، وإما في أوقات محدودة وعلى وجه محدود ، وأقيمت في الجماعة في المساجد التي تقام فيها الفرائض ، أو المواضع التي تقام فيها السنن الرواتب ، فذلك ابتداع .
والدليل عليه : أنه لم يأت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ولا عن التابعين لهم بإحسان فعل هذا المجموع هكذا مجموعاً ، وإن أتى مطلقاً من غير تلك التقييدات .
فالتقييد في المطلقات التي لم يثبت بدليل الشرع تقييدها رأيٌ في التشريع ، فكيف إذا عارضه الدليل ، وهو الأمر بإخفاء النوافل مثلاً ؟
ووجه دخول الابتداع هنا ، أن : كل ما واظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من النوافل وأظهره في الجماعات فهو سنة .
فالعمل بالنافلة التي ليست بسنة على طريق العمل بالسنة ، إخراج للنافلة عن مكانها المخصوص بها شرعاً . ثم يلزم من ذلك : اعتقاد العوام فيها ، ومن لاعلم عنده ، أنها سنة .
وهذا فساد عظيم ، لأن اعتقاد ما ليس بسنة ، والعمل بها على حدِّ العمل بالسنة نحو من تبديل الشريعة ، كما لو اعتقد في الفرض أنه ليس بفرض ، أو فيما ليس بفرض أنه فرض ، ثم عمل على وفق اعتقاده فإنه فاسد .
فهب العمل في الأصل صحيحاً ، فإخراجه عن بابه اعتقاداً وعملاً من باب إفساد الأحكام الشرعية .
ومن هنا ظهر عذر السلف الصالح في تركهم سنناً قصداً ، لئلا يعتقد الجاهل أنها من الفرائض ، كالأضحية وغيرها ....) ا هـ . الاعتصام [ 1/ 345 – 346 ] .
ونقل أبو شامة عن أبي بكر الطرطوشي قوله " وقد امتنع جماعة من الصحابة من فعل أشياء ، إما واجبة ، وإما مؤكدة ، خوفاً من ظن العامة خلاف ماهي عليه . قال الشافعي رحمه الله : وقد بلغنا أن أبا بكرالصديق وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحيان كراهية أن يقتدى بهما ، فيظن من رآهما أنها واجبة .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جلس مع أصحابه ثم أرسل بدرهمين ، فقال : اشتروا بهما لحماً ، ثم قال هذه أضحية ابن عباس .
قال الشافعي رحمه الله : وقد كان قلَّ ما يمر به يوم إلا نحر فيه أو ذبح بمكة ، وإنما أراد بذلك مثل الذي روي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ..." .
ثم قال أبوشامة " قال أبو بكر – أي الطرطوشي - : انظروا رحمكم الله فإن لأهل الإسلام قولين في الأضحية ، أحدهما سنة والثاني واجبة ، ثم اقتحمت الصحابة ترك السنة حذراً من أن يضع الناس الأمر على غير وجهه فيعتقدوها فريضة " انظر الباعث [ 86 – 88 ] .
قلت : فإذا كان الصحابة والسلف ، قد تركوا بعض السنن المؤكدة ، لئلا يلتبس على العامة أمرها فيلحقوها بالفرائض والواجبات ، فكيف بمن ابتدع بدعاً ، ثم التزم العمل بها على الدوام ، حتى وقر في قلوب كثير من العوام أنها من السنن ، بل من الواجبات ؟
ولهذا ترى كثيراً من هؤلاء ينتصرون لبدعتهم ، وينافحون عنها ، ما لا يفعلون عشره مع السنن الثابتة والواجبات المفروضة .


الفرق بين المصالح المرسلة والبدع المحدثة

قال الإمام الشاطبي ( هذا الباب يُضْطر إلى الكلام فيه عند النظر فيما هو بدعة وما ليس ببدعة ، فإن كثيراً من الناس عدوا أكثر المصالح المرسلة بدعاً ، ونسبوها إلى الصحابة والتابعين ، وجعلوها حجة فيما ذهبوا إليه من اختراع العبادات . وقوم جعلوا البدع تنقسم بأقسام أحكام الشريعة ، فقالوا : إن منها ماهو واجب ومندوب ، وعدوا من الواجب : كتْبَ المصحف وغيره ، ومن المندوب : الاجتماع في قيام رمضان على قارئ واحد ... ) إلى أن قال ( فلما كان هذا الموضع مزلة قدم لأهل البدع ، أن يستدلوا على بدعتهم من جهته ، كان الحق المتعين النظر في مناط الغلط الواقع لهؤلاء ، حتى يتبين أن المصالح المرسلة ليست من البدع في ِورْدٍ ولا صَدر، بحول الله ، والله الموفق ) .
ثم ذكر الشاطبي ما خلاصته : أن المعنى المناسب الذي يربط به الحكم لا يخلو من ثلاثة أقسام :
أحدها : أن يشهد الشرع بقبوله ، فلا إشكال في صحته ولا خلاف في إعماله .
الثاني : ما شهد الشرع برده ، فلا سبيل إلى قبوله .
الثالث : مالم يشهد له الشرع باعتباره ولا بإلغائه .
ثم ذكر أن هذا المسكوت عنه إن كان مما يلائم تصرفات الشرع ، وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل معين ، فهو الاستدلال المرسل ، المسمى : المصالح المرسلة .
قلت : والمصالح المرسلة قد يُعبر عنها بألفاظ أخرى عند الأصوليين ، فمنهم من يطلق عليه : المناسب المرسل ، أو الاستصلاح ، أو المصلحة المطلقة .
قال في مراقي السعود :
والوصف حيث الاعتبار يُجهلُ فهو الاستصلاح قل والمرسل
نقبله لعمل الصحابه كالنقط للمصحف والكتابه
وقال الشاطبي في الموافقات [ 1/ 32 ] " كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين وكان ملائماً لتصرفات الشرع ومأخوذاً معناه من أدلته ، فهو صحيح يُبنى عليه ويرجع إليه ، إذ كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعاً به ، ويدخل تحت هذا ضَربُ الاستدلال المرسل ، الذي اعتمده مالك والشافعي ، فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين ، فقد شهد له أصل كلي ... " ا هـ .
وقال في الموافقات [ 3 / 285 ] " ما سكت عنه في الشريعة على وجهين :
* أحدهما : أن تكون مظنة العمل به موجودة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يشرع له أمر زائد على ما مضى فيه ، فلا سبيل إلى مخالفته ...
فمن استلحقه صار مخالفاً للسنة .
* والثاني : أن لا توجد مظنة العمل به ثم توجد ، فيشرع له أمر زائد يلائم تصرفات الشرع في مثله ، وهي المصالح المرسلة ، وهي من أصول الشريعة المبني عليها ، إذ هي راجعة إلى أدلة الشرع ، حسب ما تبين في علم الأصول ، فلا يصح إدخال ذلك تحت جنس البدع .
وأيضاً : فالمصالح المرسلة – عند القائل بها – لا تدخل في التعبدات ألبتة ، وإنما هي راجعة إلى حفظ أصل الملة ، وحِياطة أهلها في تصرفاتهم العادية .
ولذلك تجد مالكاً ، وهو المسترسل في القول بالمصالح المرسلة ، مشدِّداً في العبادات أن لاتقع إلا على ما كانت عليه في الأولين ، فلذلك نهى عن أشياء وكره أشياء ..." ا هـ . باختصار .
قلت : وقد ذكر الشاطبي في الاعتصام [ 2/115-135] أمثلة للمصالح المرسلة ، وشرحها شرحاً وافياً ، وأنا أنقل إليك بعضها باختصار .
المثال الأول : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفقوا على جمع المصحف ، وليس ثم نص على جمعه ، وقد وقع التردد أول الأمر من قبل بعض الصحابة ، حيث أشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أبي بكر بذلك ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما تردد زيد بن ثابت في ذلك ، حتى شرح الله صدورهم لفعله ، لأنه ملائم لتصرفات الشرع ، موافق لمقاصده وأصوله ، وهو حفظ الشريعة ، والأمر بحفظها معلوم قطعاً بلا خلاف .
قال الشاطبي " وإذا استقام هذا الأصل ، فاحمل عليه كتْبَ العلم من السنن وغيرها إذا خيف عليها الاندراس ، زيادة على ماجاء في الأحاديث من الأمر بكتْب العلم " .
المثال الثاني : اتفاق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حد شارب الخمر ثمانين ، وإنما مستندهم فيه الرجوع إلى المصالح والتمسك بالاستدلال المرسل . إذ لم يكن فيه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم حد مقدر ، وإنما جرى الزجر فيه مجرى التعزير .
ثم قال الشاطبي بعد أن سرد بقية الأمثلة :
" فهذه أمثلة عشرة توضح لك الوجه العملي في المصالح المرسلة ، وتَبيَّنَ لك اعتبار أمور:
* أحدها : الملاءمة لمقاصد الشرع ، بحيث لاتنافي أصلاً من أصوله ولا دليلاً من دلائله .
* الثاني : أن عامة النظر فيها إنما هو فيما عقل منها ، فلا مدخل لها في التعبدات ، ولا ماجرى مجراها من الأمور الشرعية ... " .
إلى أن قال " ولذلك التزم مالك في العبادات عدم الالتفات إلى المعاني ، وإن ظهرت لبادي الرأي ، وقوفاً مع ما فهم من مقصود الشارع فيها من التسليم على ما هي عليه .. " .
ثم ذكر الشاطبي أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري ، ورفع حرج لازم في الدين.
فحفظ الأمر الضروري من باب " ما لايتم الواجب إلا به فهو واجب " ، فالمصالح المرسلة إذاً من الوسائل لا المقاصد .
وأما البدع فعلى النقيض من ذلك ، لأنها :
* تدخل في التعبدات ، والعبادات لايعقل معناها على التفصيل ، كما أنها من باب المقاصد لا الوسائل ، إذ العبادة مقصودة لذاتها ، بخلاف الوسائل التي هي موضوعة لغيرها .
* ولأن البدع غير ملائمة لمقاصد الشرع ، لأنه غير مأذون بها ، والعبادات المشروعة مأذون بها ، مأمور بها ، أما المصالح المرسلة فلا تعلق لها بالمقاصد .
* ولأن البدع زيادة في التكليف ، وهو ينافي رفع الحرج والتخفيف ، الذي جاءت به الشريعة السمحة ، وأمرت به .
قلت : فظهر مما تقدم ، أن بين المصالح المرسلة وبين البدع المحدثة فروقاً من وجوه متعددة ، ويؤيد ذلك أن الصحابة والأئمة عملوا بالأولى وأقروها ‘ بينما حذروا من الأخرى وأنكروها .
* فأقروا جمع المصحف وتدوين العلوم الشرعية ، ونهوا عن تخصيص العبادات بما لم يشرع ، فأنكر ابن مسعود الذكر بطريقة مخصوصة ، وأنكر غضيف بن الحارث تخصيص أوقات للتذكير والموعظة ، ... وهكذا .
* وأقروا الأذان الثالث ، الذي سنه عثمان بن عفان رضي الله عنه ، لحاجة الناس إلى ذلك ، بينما أنكروا الأذان للعيدين ، وأنكروا التثويب المخترع ، وأنكروا رفع اليدين في الخطب ، ... وهكذا .



فصل
تقسيم البدع إلى محمود ومذموم

ذهب بعض أهل العلم إلى تقسيم البدعة إلى أقسام ، وأشهر من قسمها من الأئمة المتقدمين : الإمام الشافعي رحمه الله تعالى .
فقد أخرج أبو نعيم في الحلية [ 9 / 113 ] في ترجمة الشافعي ، بإسناده إلى حرملة ابن يحيى قال : سمعت محمد بن إدريس الشافعي يقول " البدعة بدعتان ، بدعة محمودة وبدعة مذمومة . فما وافق السنة فهو محمود ، وما خالف السنة فهو مذموم " واحتج بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قيام رمضان : نعمت البدعة هي .
قلت : وقد نقل هذا الأثر عن الشافعي جمع من الأئمة والعلماء ، منهم ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم [ ص 401 ] وقال عقبه " ومراد الشافعي رضي الله عنه ما ذكرناه من قبل ، أن أصل البدعة المذمومة ما ليس لها أصل في الشريعة ترجع إليه ، وهي البدعة في إطلاق الشرع .
وأما البدعة المحمودة فما وافق السنة ، يعني : ما كان لها أصل من السنة ترجع إليه . وإنما هي بدعة لغة لا شرعاً لموافقتها السنة " ا هـ .
ونقله الحافظ في الفتح [ 13 / 253 ] كذلك ، كما نقل تقسيم العز بن عبد السلام البدع إلى خمسة أقسام ، وسيأتي تفصيلها قريباً .
هذا وقد قال الحافظ قبل ذلك ما نصه " والمحدثات بفتح الدال ، جمع محدثة والمراد بها ما أحدث وليس له أصل في الشرع ، ويسمى في عرف الشرع " بدعة " ، وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة .
فالبدعة في عرف الشرع مذمومة ، بخلاف اللغة ، فإن كل شيء أحدث على غير مثال يسمى بدعة ، سواء كان محموداً أو مذموماً " ا هـ .
قلت : وهذا يفسر قول الشافعي في تقسيم البدعة ، فإنه قصد المعنى اللغوي ، وهو ما أحدث على غير مثال سابق .
أما المعنى الشرعي ، الوارد في الأحاديث وكلام السلف ، فإنه نوع واحد وقسم واحد ، وهو مذموم غير محمود .
فصل
شبهات أهل البدع والمحدثات

ما من صاحب بدعة ولا هوى إلا ويحرص أن يستدل على بدعته بأدلة تؤيد هواه وتنصر مبتغاه .
ولأن شأن البدع والأهواء التعدد والكثرة ، وليس لها حصر لا في نوعها ولا في أفرادها ، فإن أدلتهم وشبهاتهم كذلك يصعب حصرها ، وأكثرها لا يتعدى القياس والاستحسان العقلي ، وأما الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة ، فالغالب عليهم الاستدلال بالمتشابهات وبالعمومات والمطْلقات ، وتحريف الكلم عن مواضعه .
قال الشاطبي " لما نظرنا في طرق البدع من حين نبتت وجدناها تزداد على الأيام ، ولا يأتي زمان إلا وغريبة من غرائب الاستنباط تحدث إلى زماننا هذا .
وإذا كان كذلك ، فيمكن أن يحدث بعد زماننا استدلالات أخر لاعهد لنا بها فيما تقدم ، لاسيما عند كثرة الجهل وقلة العلم وبعد الناظرين فيه عن درجة الاجتهاد ، فلا يمكن إذاً حصرها من هذا الوجه .
ولا يقال : إنها ترجع إلى مخالفة طريق الحق ، فإن أوجه المخالفة لا تنحصر أيضاً .
لكنا نذكر من ذلك أوجهاً كلية يقاس عليها ما سواها :
1 – فمنها : اعتمادهم على الأحاديث الواهية الضعيفة ، والمكذوب فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم . كحديث الاكتحال يوم عاشوراء .
2 – ومنها : انحرافهم عن الأصول الواضحة إلى اتباع المتشابهات ، وطلب الأخذ بها تأويلاً .
ومدار الغلط هنا هو الجهل بمقاصد الشرع ، وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض ، فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو : على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها ، وعامِّها المرتب على خاصِّها ، ومطلقها المحمول على مقيَّدها ..
وشأن متبعي المتشابهات : أخذ دليل ما – أي دليل كان – عفواً ، وأخذاً أولياً ، وإن كان ثم ما يعارضه من كلي أو جزئي .
3 – ومنها : الأخذ بالمطلقات قبل النظر في مقيداتها ، وبالعمومات من غير تأمل ، هل لها مخصصات أم لا ؟ وكذلك العكس ، بأن يكون النص مقيداً فيطلق ، أو خاصاً فيعم بالرأي من غير دليل سواه .
4 – ومنها : تحريف الأدلة عن مواضعها . بأن يرد الدليل على مناط ، فيصرف عن ذلك المناط إلى أمر آخر موهماً أن المناطين واحد ..." ا هـ . باختصارمن الاعتصام [ 1 / 224- 249 ] .
وقال الشاطبي في موضع آخر " إن الإحداث في الشريعة إنما يقع إما من جهة الجهل، وإما من جهة تحسين الظن بالعقل ، وإما من جهة اتباع الهوى في طلب الحق، وهذا الحصر بحسب الاستقراء من الكتاب والسنة . والجهات الثلاث قد تنفرد وقد تجتمع .
فأما جهة الجهل : فتارة تتعلق بالأدوات التي بها تفهم المقاصد ، وتارة تتعلق بالمقاصد . وأما جهة تحسين الظن بالعقل ، فتارة يُشْرَكُ في التشريع مع الشرع ، وتارة يقدم عليه ... " الخ . انظر الاعتصام [ 2 / 293 ] .


فصل
أمثلة من شبهات أهل البدع والرد عليها

قد ذكرنا مأخذ أهل البدع في الاستدلال من حيث الجملة ، وسنخص الكلام هنا على بعض شبهاتهم التي يزخرفون بها بدعهم ومحدثاتهم ، وجوابها باختصار .
الشبهة الأولى : تخصيص عمومات الأدلة المحذرة من البدع
قالوا : قد ثبت في الشريعة ما يدل على أن عموم قوله صلى الله عليه وسلم (( كل محدثة بدعة )) و (( كل بدعة ضلالة )) ، مخصوص ، والدليل على التخصيص أمران :
الأول : فعل الصحابة رضوان الله عليهم ، حيث ابتدعوا بدعاً وأحدثوا محدثات لم تكن في العهد النبوي ، ومضى التابعون على ذلك أيضاً فأحدثوا أموراً لم تكن في عهد الصحابة ، وهكذا .
فيقاس عليه ما أحدثه الناس من بعدهم في القرون المتأخرة .
الثاني : تقسيم العلماء للبدع والمحدثات إلى أقسام ، فلم يجعلوها قسماً واحداً مذموماً ، وهذا يدل على التخصيص والتقييد .
والجواب على هذه الشبهة باختصار أن نقول :
إننا لا نسلِّم أن الصحابة ابتدعوا وأحدثوا أموراً في الشرع بالمعنى الاصطلاحي للبدعة والمحدثة ، وإنما كان فعلهم من قبيل المصالح المرسلة ، وقد تقدم معناها والتفريق بينها وبين البدع المحدثة .
* فجمع المصحف وقصر الناس على حرف واحد ، فيه مصلحة ظاهرة ، وهي حفظ الشريعة من الضياع ، وسد ذريعة الاختلاف في القرآن المفضي إلى الكفر ، كما اختلف بعضهم في قراءة حرف ، ونازعهم آخرون فقرؤه بحرف آخر ، لكونه أنزل على سبعة أحرف ، ولكنهم لما كادوا يقتتلون ويكفِّر بعضهم بعضاً بسبب القراءة بالأحرف ، قصروا على حرف واحد ، وهو ماجاء في مصحف عثمان رضي الله عنه، واطَّرحوا ما سوى ذلك .
وكل ذلك داخل ضمن عمومات الشريعة وراجع إلى أصولها ، في حفظ أُّسِّ الدين وينبوع الملة وترك الاختلاف والتنازع المفضي إلى الكفر .
وقد ذكرنا جملة من الفروق بين المصلحة المرسلة وبين البدعة المحدثة ، وننزِّل كل المسائل التي أحدثت في عهد الصحابة على ذلك ، وهي من باب الوسائل لا المقاصد، كما تقدم شرحه وبيانه .
ويضاف إلى ذلك أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الأمة بأن تتبع سنته وسنة خلفائه الراشدين المهديين ، وكل المسائل المنقولة في هذا الباب ، أو أكثرهل ، إنما كانت في عهد الخلفاء الراشدين الأربعة المتفق على إمامتهم وفضلهم ، والمنصوص على اتباع سنتهم ، دون غيرهم .

فصل

وأما تقسيم العلماء للبدع إلى أقسام ، كقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، لما جمع الناس على إمام واحد في التراويح ( نعمت البدعة هذه ) ، وكتقسيم الشافعي البدعة إلى قسمين ، وكتقسيم بعض العلماء البدعة إلى خمسة أقسام ، كما نقل عن العز بن عبدالسلام ، وتبعه على ذلك بعض العلماء ، فالجواب على ذلك :
أولاً : أما قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صلاة التراويح بإمام واحد ( نعمت البدعة هذه ) ، فإنه لايقصد البدعة المذكورة في النصوص العامة (( كل بدعة ضلالة )) ، بل المقصود البدعة اللغوية لا الشرعية ، وقد عرَّفنا البدعة في اللغة أنها " ما أحدث على غير مثال سابق " ، وهي التي تقبل التقسيم إلى محمود ومذموم ، و تقبل التقسيم إلى الأحكام الشرعية الخمسة : الوجوب والندب والإباحة والكراهة والتحريم ، وبهذا يجاب على كل من قسم البدعة .
يدل عليه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سنَّ لأمته صلاة التراويح جماعة ، وقد صلاها بهم عدة ليالٍ ، ثم ترك ذلك خشية أن تفرض عليهم ، والزمان زمان وحي وتنزيل ، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم وانقطع الوحي وأمن على الأمة أن يفرض عليها شيء لم يكن مفروضاً من قبل ، فعلها عمر رضي الله عنه ، وجمعهم على إمام واحد . انظر جامع الأصول [ 6/116-122] .
قلت : وانظر إن شئت تفصيل هذه المسألة في : الاعتصام [ 1/185 وما بعدها ] واقتضاء الصراط المستقيم [ 2 / 588 وما بعدها ] .
وكذلك القول في تقسيم العز بن عبدالسلام ، وقد مثَّل لكل قسم من أقسامه بمثال يدل على أنه قصد معنىً غير المعنى الشرعي للبدعة. وقد وافقه تلميذه القرافي في ذلك التقسيم وفصَّل القول فيه . وإليك ما قاله القرافي ، أسوقه لك باختصار :
قال في الفروق [ 4/ 202- 205 ] " اعلم أن الأصحاب فيما رأيت متفقون على إنكار البدع ، نص على ذلك ابن أبي زيد وغيره .
والحق التفصيل ، وأنها خمسة أقسام :
* قسم واجب ، وهو ما تتناوله قواعد الوجوب وأدلته من الشرع ، كتدوين القرآن والشرائع إذا خيف عليها الضياع .
* القسم الثاني : محرم ، وهو بدعة تناولتها قواعد التحريم وأدلته من الشريعة ، كالمكوس والمحدثات من المظالم المنافية لقواعد الشريعة ، كتقديم الجهال على العلماء وتولية المناصب الشرعية من لا يصلح لها بطريق التوارث ، وجعل المستند لذلك كون المنصب كان لأبيه ، وهو في نفسه ليس بأهل .
* القسم الثالث من البدع : مندوب إليه ، وهو ما تناولته قواعد الندب وأدلته من الشريعة كصلاة التراويح ، وإقامة صور الأئمة والقضاة وولاة الأمور على خلاف ما كان عليه أمر الصحابة ، بسبب أن المصالح والمقاصد الشرعية لا تحصل إلا بعظمة الولاة في نفوس الناس . وكان الناس في زمن الصحابة معظم تعظيمهم إنما هو بالدين وسابق الهجرة ، ثم اختل النظام وذهب ذلك القرن وحدث قرن آخر لا يعظمون إلا بالصور ، فيتعين تفخيم الصور حتى تحصل المصالح .
وقد كان عمر يأكل خبز الشعير والملح ، ويفرض لعامله نصف شاة كل يوم لعلمه بأن الحالة التي هو عليها ، لو عملها غيره لهان في نفوس الناس ولم يحترموه .
*القسم الرابع : بدع مكروهة ، وهي ما تناولته أدلة الكراهة من الشريعة وقواعدها ، كتخصيص الأيام الفاضلة أو غيرها بنوع من العبادات .
* القسم الخامس : البدع المباحة ، وهي ما تناولته أدلة الإباحة وقواعدها من الشريعة، كاتخاذ المناخل للدقيق ... "
ثم ختم القرافي كلامه بقوله " فالبدعة إذا عرضت ، تعرض على قواعد الشريعة وأدلتها ، فأي شيء تناولها من الأدلة والقواعد ألحقت به ، من إيجاب أو تحريم أو غيرهما ، وإن نُظر إليها من حيث الجملة بالنظر إلى كونها بدعة ، مع قطع النظر عما يتقاضاها ، كرهت .
فإن الخير كله في الاتباع ، والشر كله في الابتداع ... " ا هـ . باختصار .
وكلام القرافي مأخوذ في الأصل من كلام شيخه العز بن عبدالسلام ، مع اختلاف في العبارة ، وفي الأمثلة المضروبة للأقسام الخمسة .
فقد مثّل العز للبدع " الواجبة " بالاشتغال بالنحو وتدوين أصول الفقه وعلم الجرح والتعديل ونحو ذلك .
و للبدع " المحرمة " بمذاهب الفرق : كالقدرية والجبرية ونحوها .
و للبدع " المندوبة " بإحداث الربط والمدارس وبناء القناطر ونحو ذلك .
و للبدع " المكروهة " بزخرفة المساجد وتزويق المصاحف .
و للبدع " المباحة " بالمصافحة عقب صلاة الصبح والعصر ، والتوسع في المأكل والمشرب والملبس والمسكن .
لكنه عقب ذلك بقوله " وقد اختلف في بعض ذلك ، فجعله بعض العلماء من البدع المكروهة ، وجعله آخرون من السنن المفعولة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ..." انظر قواعد الأحكام [ 2 / 172- 174 ] .
وقد ساق الإمام الشاطبي في الاعتصام [ 1/ 188 – 191 ] كلام القرافي وابن عبدالسلام ، وأجاب على هذا التقسيم بجواب طويل مفيد في قرابة عشرين صفحة [ 1/ 191- 211 ] .
وخلاصة ما جاء فيه " أن هذا التقسيم للبدع مخترع لا دليل عليه ، وأنه في نفسه متدافع ، لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي ، لا من نصوص الشرع ولا من قواعده ، إذ لو كان ثمة دليل عليها لما كانت بدعة .
ومن العجب حكاية القرافي اتفاق الأصحاب على إنكار البدع ثم مخالفته لهذا الاتفاق المذكور بتقسيمه المخترع .
وغاية ما جاء فيه وفي كلام العز بن عبدالسلام من الواجب والمندوب إنما هو من قبيل المصالح المرسلة لا البدع المحدثة ، ومن قبيل مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
وبناء المدارس والقناطر ونحوها من باب الوسائل لا المقاصد ، وهي بحسب ما بنيت له ، بخلاف البدع التي تقع في العبادات فإنها مقصودة لذاتها متعبد بها .
وما ذكره العز بن عبدالسلام من المصافحة عقب صلاتي الصبح والعصر ، وأنها من البدع المباحة ، فجوابه : أننا نسلِّم أنها من البدع ، ونمنع أن تكون مباحة ، إذ لا دليل في الشرع يدل على تخصيص تلك الأوقات بها ".
قلت : ومما تجدر الإشارة إليه هنا ، أن العز بن عبدالسلام ، القائل بمثل هذا التقسيم المخترع ، كان من أشد العلماء كراهة وإنكاراً للبدع ، وقد اشتهر بذلك رحمه الله .
قال أبوشامة " وقد اتفق أن ولي الخطابة والإمامة بجامع دمشق في سنة سبع وثلاثين وستمائة أحق الناس بهما يومئذ ، الفقيه المفتي ناصر السنة مظهر الحق أبو محمد عبدالعزيز بن عبدالسلام ، أيده الله بحراسته وقواه على طاعته ، فجرى في إحياء السنن وإماتة البدع على عادته .
فلما قرب دخول شهر رجب أظهر للناس أمر صلاة الرغائب ، وأنها بدعة منكرة ، وأن حديثها كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخطب بذلك على المنبر يوم الجمعة ، وأعلم الناس أنه لا يصليها ، ونهاهم عن صلاتها ، ووضع في ذلك جزءاً لطيفاً سماه " الترغيب عن صلاة الرغائب " ، حذر الناس فيه من ركوب البدع ومن التقرب إلى الله تعالى بما لم يشرع ، فشق ذلك على العوام وعلى كثير من المتميزين الطغام ، الذين اغتروا منها بمجرد كونها صلاة فهي طاعة وقربة ، فلماذا ينهى عنها ؟ وركوناً إلى ذلك الحديث الباطل .
وشق على سلطان البلد وأتباعه إبطالها ، فصنف لهم بعض مفتي البلد جزءاً في تقريرها وتحسين حالها وإلحاقها بالبدع الحسنة من جهة كونها صلاة .
فردَّ عليه الفقيه أبو محمد أحسن رد ..." .
ثم قال أبو شامة " اعتمد الفقيه أبو محمد رحمه الله تعالى في إنكاره والمنع منها على أدلة ، بعد بيان بطلان حديثها .
* منها : أن العلماء الذين هم أعلام الدين وأئمة المسلمين من الصحابة والتابعين وتابع التابعين وغيرهم ، ممن دوَّن الكتب في الشريعة ، مع شدة حرصهم على تعليم الناس الفرائض والسنن ، لم ينقل عن واحد منهم أنه ذكر هذه الصلاة ولا دوَّنها في كتابه ، ولا تعرَّض لها في مجلسه ، والعادة تحيل أن يكون مثل هذه سنة ً، وتغيب عن هؤلاء الذين هم أعلام الدين وقدوة المؤمنين ، وهم الذين إليهم الرجوع في جميع الأحكام من الفرائض والسنن والحلال الحرام ... " ا هـ باختصار من الباعث [ 68- 71 ] .
قلت : فقد تبيَّن إذاً ، أن كلام ابن عبدالسلام السابق في تقسيم البدعة ، ليس كما فهمه المخالفون في تحسين بدعهم ومحدثاتهم ، وإلا لما أنكر بدعة صلاة الرغائب ، وغيرها من البدع المنتشرة في زمانه ، حتى لقبه أبو شامة وغيره بلقب :" ناصر السنة ومظهر الحق " ، ولم تأخذه – رحمه الله – ملامة اللائمين ، ولا خذلان المخذلين ، ولم يكترث بكثرة الواقعين في تلك البدع ، من العوام والوجهاء والأمراء، ولا بالعلماء الذين كانوا يؤيدونها.
ومما أنكره العز بن عبدالسلام أيضاً ، السجدة المفردة ، وهي من صغار المحدثات ، حتى عدّها بعضهم من قسم المباحات .
قال أبو شامة " قال الفقيه أبو محمد : لم ترد الشريعة بالتقرب إلى الله تعالى بسجدة منفردة لا سبب لها ، فإن القُرَب لها أسباب وشرائط وأوقات وأركان لا تصح بدونها، فكما لا يتقرب إلى الله تعالى بالوقوف بعرفة ومزدلفة ورمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة من غير نسك واقع في وقته بأسبابه وشرائطه ، فكذلك لا يتقرب إلى الله تعالى بسجدة منفردة ، وإن كانت قربة ، إلا إذا كان لها سبب صحيح .
وكذلك لا يتقرب إلى الله تعالى بالصلاة والصيام في كل وقت وأوان ، وربما تقرب الجاهلون إلى الله تعالى بماهو مُبعد عنه من حيث لا يشعرون " ا هـ . الباعث [ص95] .
قلت : وكلام العز بن عبدالسلام هنا في السجدة المفردة وصلاة الرغائب ، يؤكد ما ذكرناه من أنه رحمه الله تعالى لا يقصد بتقسيم البدع حين قسمها إلى خمسة أقسام، البدع الواردة في النصوص الشرعية .
وتأمل قوله هناك عن صلاة الرغائب ، أنها لم تنقل عن السلف ، وأن الحديث الوارد فيها مكذوب .
وقوله هنا ، عن السجدة المفردة ، أنها لا سبب لها ، وأن القربات لها أسباب وشرائط وأوقات وأركان لا تصح بدونها ... الخ .
فهو مطابق لما نقلناه سابقاً في شرح معنى البدعة ، وأن تخصيص العبادات بما لم يخصصه الشرع في الزمان أو المكان أو السبب أو غير ذلك هو العلة التي من أجلها صارت بدعة .
ويضاف إلى ذلك أيضاً ترك السلف الصالح لها ، مع حرصهم على الخير ، وهذا عين ما يستدل به سائر العلماء المنكرين للبدع والأهواء .
ومن بديع ما ختم به العز كلامه عن السجدة المفردة ، قوله " وربما تقرب الجاهلون إلى الله تعالى بماهو مبعد عنه من حيث لا يشعرون ".
وهذا يتوارد مع ما نقل عن السلف في التحذير من البدع ، وأنها قد تكون سبباً في سخط الله وعذابه لفاعلها ، مع أنه قصد القربى والزلفى لديه بفعلها .
* فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أنه كان يضرب المتنفلين بالصلاة بعد العصر ، فقيل له : أنُضرب على الصلاة ؟ فقال : بل على خلاف السنة .
* ومثله عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً حيث قال " قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة بعد العصر ، فلا أدري أتعذب عليها أم تؤجر "؟ .
* وقال طاووس " الذين يعتمرون من التنعيم ما أدري يؤجرون عليها أم يعذ َّبون "؟.
* ورأى سعيد بن المسيب رجلاً يصلي بعد ركعتي الفجر فنهاه ، فقال الرجل " يا أبا محمد يعذبني الله على الصلاة ؟ قال :لا ، ولكن يعذبك على خلاف السنة " .
انظر هذه الآثار في الباعث [ 107 – 109 ] .


فصل

ثم نقول أيضاً لمن خصَّ عموم قوله صلى الله عليه وسلم (( كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة )) ، بقول عمر " نعمت البدعة هذه " ، إن غاية ما ذكرتموه هنا ، أن خصصتم عموم الحديث بقول عمر في قضية واحدة ، فلو سلمنا أن صلاة التراويح بإمام واحد كانت داخلة في عموم (( كل بدعة ضلالة )) وخصها عمر ، ( مع أننا لا نسلِّم ذلك لأن عمر قصد البدعة اللغوية لا الشرعية ) ، فإن ما سوى ذلك يبقى داخلاً في عموم الحديث لأن " العام المخصوص دليل فيما عدا صورة التخصيص " . فمن ابتدع بدعة وأراد أن يحتج لها بقول عمر " نعمت البدعة هذه " قلنا له إن عمر خص بدعة معينة ، وأما بدعتك فهي داخلة في عموم (( كل بدعة ضلالة )) .
مع أن تخصيص العام بقول الصحابي غير مسلَّم ، والكلام فيه يطول ، بل الاحتجاج بقول الصحابي ، ولو لم يخالف قوله نصاً شرعياً ، فيه خلاف معروف .
وأما تخصيص العام برأي بعض الناس ، أو بعملهم ، عدا الصحابة ، فلا يعوَّل عليه ، ولا ينبغي الخلاف فيه .
الشبهة الثانية : حديث (( من سنَّ سنة حسنة ))
قالوا : ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده ، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء )) رواه مسلم والنسائي . انظر جامع الأصول [6/457] .
قالوا : فقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم السنة إلى قسمين : حسنة وسيئة ، ويدخل في معناه البدعة الحسنة والبدعة السيئة .
والجواب من وجوه :
1 – أن الحديث نص على "السنة " وقسمها قسمين ، وأما البدعة فلم ترد في سائر الأحاديث إلا على قسم واحد ، وهي " الضلالة " .
والسنة هنا في هذا الحديث هي الطريقة ، كما تقدم ذكر ذلك من قبل في معناها اللغوي ، لا الاصطلاحي ، وهي عند الإطلاق اللغوي ،لا تتوافق مع معنى البدعة ، لا في اللغة ، ولا في الاصطلاح .
2 – هب أن هذا الحديث (( من سن سنة حسنة )) يتعارض ظاهراً مع حديث (( كل بدعة ضلالة)) ، فإنه ينبغي حينئذ النظر في وجه الجمع بينهما ، كما نصنع مع سائر الأحاديث التي يُظنُّ فيها التعارض ، لأن العمل بالدليلين أولى من اطِّراح أحدهما ، كما نص عليه العلماء ، وهذا يستدعي النظر في فقه الحديثين .
3 – وقد شرح العلماء حديث (( من سن سنة حسنة )) وقالوا : معناه " من أحيا سنة " ، وليس معناه " من ابتدع بدعة ورآها حسنة ".
يدل على ذلك سبب ورود الحديث المذكور ، حيث قال الراوي ، وهو جرير بن عبدالله البجلي " كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه قوم عراة مجتابي النِّمار، متقلدي السيوف ، عامتهم من مضر ، بل كلهم من مضر ، فتمعَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لِما رأى بهم من الفاقة ، فدخل ثم خرج فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى .. " ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب وحضَّ أصحابه على الصدقة فتقدم رجل من الأنصار بصدقته ثم تبعه الناس بصدقاتهم ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم حينها (( من سن في الإسلام ....)) الحديث .
فالذي فعله الأنصاري هو المبادرة بصدقته ، والصدقة سنة حسنة بالاتفاق .
فالمعنى إذاً : من عمل بسنة حسنة أو سبق إليها أو أحياها بعد أن أميتت ، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة . يؤيد ذلك ما ورد في الحديث الآخر بلفظ (( من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي ، كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئاً )). رواه الترمذي [2679] في العلم . باب ماجاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع . من حديث عمرو بن عوف رضي الله عنه .
قلت : فقوله في هذا الحديث " من أحيا سنة " يقابل قوله في ذلك الحديث " من سنّ سنة حسنة " . وقوله هنا " من ابتدع بدعة ضلالة " يقابل قوله هناك " من سنّ سنة سيئة " .
* وورد أيضاً بلفظ آخر من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً )) رواه مسلم والترمذي وأبوداود في كتاب السنة ، باب لزوم السنة . انظر جامع الأصول [ 9/565] .
قلت : فعاد الحديث حجة لنا لا للمخالفين المبتدعة .
4 – ونقول أيضاً : إن الاستدلال بهذا الحديث على البدع يحتاج إلى دليل آخر ، لأنه ذكر سنتين متغايرتين ، حسنة وسيئة ، فمن أين للمبتدع أن بدعته تلك حسنة ؟ ولم لا تكون من القسم الآخر وهو السيئة ؟
وما من مبتدع يزعم أن بدعته المعينة حسنة ، إلا وسيجد من يعارضه ويزعم أنها سيئة، وهذا الاحتمال يُسقط الاستدلال بهذا الحديث ، ويبقى حديث (( كل بدعة ضلالة )) حجة لعدم الاحتمال فيه .
5 – وأخيراً فإن هذا الحديث ، في الواقع ، حجة لأهل السنة والاتباع ، لا لمن خالفهم من أهل الابتداع .
وقد أشار الإمام البخاري في صحيحه ، في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ،إلى هذا الحديث فقال " باب إثم من دعا إلى ضلالة أو سنَّ سنة سيئة " .
قال الحافظ ابن حجر " قال المهلب : هذا الباب والذي قبله في معنى التحذير من الضلال واجتناب البدع ومحدثات الأمور في الدين والنهي عن مخالفة سبيل المؤمنين. انتهى .
ووجه التحذير أن الذي يحدث البدعة قد يتهاون بها لخفة أمرها في أول الأمر ، ولا يشعر بما يترتب عليها من المفسدة ، وهو أن يلحقه إثم من عمل بها من بعده ، ولو لم يكن هو عمل بها لكونه كان الأصل في إحداثها " ا هـ . فتح الباري [ 13/302 ] .
الشبهة الثالثة : أثر ( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن )
ومن شبهاتهم الأثر الوارد عن ابن مسعود رضي الله عنه حيث قال " ما رآه المسلمون حسناً فهو عندالله حسن " .
قالوا : فإننا قد رأينا هذه البدع حسنة ، فهي عندالله كذلك حسنة .
والجواب على هذا من وجوه أيضاً :
1 – هذا الأثر ورد بلفظ " إن الله تعالى اطلع في قلوب العباد ، فاختار محمداً صلى الله عليه وسلم ، فبعثه برسالته وانتجبه بعلمه ، ثم نظر في قلوب الناس بعد ، فاختار له أصحاباً ، فجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيه ، فما رآه المؤمنون حسناً فهو عندالله حسن ، وما رآه المؤمنون قبيحاً فهو عندالله قبيح " رواه البغوي في شرح السنة [1/215] ورواه أحمد [3600] بلفظ " فما رآه المسلمون حسناً ... " الخ .
قلت: وظاهر كلام ابن مسعود ، أنه يعني الصحابة رضوان الله عليهم بقوله " فما رآه المؤمنون " ، ولا يعني بذلك أفرادهم ، بل ما أجمعوا عليه ، لأن إجماعهم حجة .
ثم يلتحق بذلك إجماع من بعدهم من علماء الأمة ، يؤيده أن علماء الأصول ذكروا هذا الأثر في مبحث الإجماع . انظر شرح الكوكب المنير [ 2 / 223 ] .
2 – أن هذا الأثر، يشبه الأثر الآخر عن ابن مسعود رضي الله عنه الذي قال فيه " من كان مستناً فليستنَّ بمن قد مات ، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، كانوا خير هذه الأمة ، أبرها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه ، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم ، فهم كانوا على الهدى المستقيم " . انظر شرح السنة للبغوي [1/214] .
فكلامه رضي الله عنه صريح في الترغيب في اتباع سنن الصحابة خاصة المتقدمين منهم ، ولذا قال " فليستنّ بمن قد مات " .
3 – أن ابن مسعود رضي الله عنه كان من أشد الصحابة إنكاراً للبدع والمحدثات ، ولهذا قال " اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم " .
وأنكر على أصحاب الحِلَق المجتمعين في المسجد بهيئة مخترعة يذكرون الله ، كما تقدم ، وهم كانوا مؤمنين ويرون عملهم ذلك حسناً ، فأنكر عليهم وأغلظ في الإنكار .
4 – ونقول أيضاً : إنه يلزم على من استدل بهذا الأثر " ما رآه المسلمون حسناً " ..الخ ، أن يحسِّن كل البدع التي أحدثها المسلمون ، ويصحح كل المذاهب والفرق المخالفة ، ما لم تكن كفراً ، لأن أصحابها مسلمون .
ولا يخفى أن كل من ابتدع بدعة عملية ، أو اعتقادية ، فإنه يرى أن بدعته تلك حسنة، وإلا لما ابتدعها .
وقد قال الله تعالى { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً } .
وقال { وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً } .
5 – ثم إننا نعكس هذا الاستدلال على المستدل به على حسن بدعته ، فنقول : إن شطره الآخر جاء فيه " وما رآه المؤمنون قبيحاً فهو عندالله قبيح " ، ونحن وغيرنا من المؤمنين المنكرين للبدع قد رأيناها قبيحة وسيئة ، فهي إذاً قبيحة وسيئة .
فليس احتجاجكم به بأولى من احتجاجنا به .
الشبهة الرابعة : تقليد العلماء المخالفين
وهذه من أوهى الحجج التي يستند إليها المبتدعة ، وهي الاستدلال بقول من خالف من أهل العلم أو بفعله ، وأوهى منها الاحتجاج بكثرة المخالفين ولو كانوا من عوام الناس وغوغائهم .
وقد أثر عن الفضيل بن عياض رحمه الله قوله " اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين " انظر الاعتصام [1/83].
وقال يونس بن عبيد " إن الذي تُعرض عليه السنة فيقبلها غريب ، وأغرب منه صاحبها " الاعتصام [1/85] .
وعن ابن المبارك أنه قال " اعلم أي أخي أن الموت كرامة لكل مسلم لقي الله على السنة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، فإلى الله نشكو وحشتنا وذهاب الإخوان وقلة الأعوان وظهور البدع " . البدع لابن وضاح [170] والاعتصام [1/86] .
قلت : وشكاية السلف من كثرة المخالفين وظهور بدعهم ، ومن قلة المتبعين للحق والسنة ، مشهورة ، والآثار فيها أكثر من أن تحصر ، هذا وهم في تلك القرون الفاضلة ، فكيف بزماننا ؟!
وأما الاحتجاج بقول العالم ، فإنه لو فرض كونه أعلم زمانه ، ووافقه على اجتهاده كثير من أمثاله ، فإن قولهم ليس بحجة في دين الله ، ولا يُعارَضُ به السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الشاطبي " فالسنة حجة على جميع الأمة ، وليس عمل أحد من الأمة حجة على السنة ، لأن السنة معصومة عن الخطأ ، وصاحبها معصوم . وسائر الأمة لم تثبت لهم عصمة ، إلا مع إجماعهم خاصة .
وإذا اجتمعوا تضمَّن إجماعهم دليلاً شرعياً " . الاعتصام [ 1/217] .
قلت : وقد فصل العلماء الأدلة التي يستدل بها ويحتج بها في دين الله ، فذكروا الكتاب والسنة وإجماع الأمة والقياس .
واختلفوا في الاحتجاج بقول الصحابي إذا لم يخالف نصاً أو قول صحابي آخر ، و عمل أهل المدينة في زمن الخلفاء الراشدين . وهذه هي الأدلة التي يستدل بها العالم المجتهد ، فكيف يُجعل قولُه هو، أو عملُه ، دليلاً شرعياً .
فإن قيل : كيف يعقل أن يقع المجتهد في بدعة ؟
فالجواب : أن البدعة ، كغيرها من المسائل ، قد تشتبه حتى على العالم المجتهد ، وكما أنا أجزنا عليه الخطأ في المسائل العملية المتعلقة بالفقه ، فكذلك يجوز عليه الخطأ في المسائل العملية المتعلقة بالبدع ، بل والمسائل الاعتقادية أيضاً .
وقد تقدم ذكر أثر معاذ بن جبل رضي الله عنه في التحذير من البدع ، ثم قال في آخره " وأحذركم زيغة الحكيم ، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم " رواه أبو داود [4611] .
وزيغة الحكيم وزلته هنا متعلقة بالبدعة ، لأن سياق الكلام عنها لا عن غيرها من المسائل .
وقد تقدم أيضاً ذكر التحذير من تقليد العلماء في زلاتهم ، وهو عام في كل الأخطاء .
ومما يؤيد ذلك ، أن بعض السلف ، من الصحابة وغيرهم ، أخطأوا في مسائل من هذا النوع ، وإليك أمثلة على ذلك :
1 – فقد كان معاوية رضي الله عنه يستلم الأركان كلها في الطواف ، فأنكر عليه ابن عباس وقال له " إنه لا يستلم هذان الركنان " أي : الشاميان ، فقال معاوية " ليس شيء من البيت مهجورا " فقال ابن عباس { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } فقال معاوية : صدقت . انظر فتح الباري [3/474 ] .
قال الحافظ " وأجاب الشافعي عن قول من قال : ليس شيء من البيت مهجوراً ، بأنا لم ندع استلامهما هجراً للبيت ، وكيف يهجره وهو يطوف به ، ولكنا نتبع السنة فعلاً أو تركاً " .
2 – وكان ابن عباس رضي الله عنهما إذا قلَّد هديه تجرد للإحرام وأمسك عما يمسك عنه المحرم ، فبلغ ذلك ابن الزبير رضي الله عنهما ، فقال " بدعة ورب الكعبة " . انظر الموطأ [ 1/341 ] ومصنف ابن أبي شيبة [ 4/88] .
3 – وكان بعض السلف يجيز التعريف بالأمصار ، وهو " اجتماع الناس عشية يوم عرفة في غير عرفة ، يفعلون ما يفعله الحاج يوم عرفة من الدعاء والثناء " انظر الباعث [ ص 44 ] .
قال الحسن البصري " أول من جمع الناس في هذا المسجد يوم عرفة ابن عباس " .
وقال أبو عوانة " رأيت الحسن البصري رحمه الله يوم عرفة بعد العصر جلس فدعا وذكرالله تعالى ، فاجتمع الناس " .
وسئل الإمام أحمد عن التعريف فقال " لا بأس به ، إنما هو دعاء وذكر الله " فقيل له : تفعله أنت ؟ قال " أما أنا فلا " . انظر الباعث [ 44 – 49 ] .
ومع ذلك فقد أنكر التعريف أكثر العلماء وعدوه من البدع ، انظر الآثار في ذلك عن نافع مولى ابن عمر وأبي وائل وسفيان ومالك بن أنس والليث بن سعد وإبراهيم النخعي وغيرهم ، في البدع لابن وضاح [ ص 102 ] والباعث لأبي شامة .
قلت : وقد أجاب أبو شامة عن فعل ابن عباس والحسن البصري بما يفيد أنهما لم يقصدا التعريف المحدث ، وإنما جلسا عن غير قصد فجلس معهما الناس .
[ الباعث ص 48 ] .
والمقصود بيان أن الخطأ وارد في مسائل البدع حتى على العلماء المجتهدين ، فلا يصلح الاحتجاج بهم فيما أخطأوا فيه .
" قال مجاهد والحكم بن عتيبة ومالك : ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال سليمان التيمي : إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله " . انظر الموافقات للشاطبي [ 5/134 ] .
قال الشاطبي عقب ذلك " وهذا كله ، وما أشبهه ، دليل على طلب الحذر من زلة العالم ، وأكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشارع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه ، والوقوف دون أقصى المبالغة في البحث عن النصوص فيها ، وهو ، وإن كان على غير قصد ولا تعمد ، وصاحبه معذور ومأجور ، لكن مما ينبني عليه في الاتباع لقوله ، فيه خطر عظيم .. فإنه ربما خفي على العالم بعض السنة ، أو بعض المقاصد العامة في خصوص مسألته ، فيفضي ذلك إلى أن يصير قوله شرعاً يتقلد ، وقولاً يُعتبر في مسائل الخلاف ، فربما رجع عنه وتبين له الحق ..... " ا هـ . باختصار .
وقال الشاطبي أيضا " زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة ، ولا الأخذ بها تقليداً له، وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع ، ولذلك عُدت زلة ، وإلا فلو كانت معتداً بها ، لم يُجعل لها هذه الرتبة ، ولا نُسب إلى صاحبها الزلل فيها .
كما أنه لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير ، ولا أن يُشنَّع عليه بها ، ولا يُنتقص من أجلها ، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتاً ، فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين ، وقد تقدم من كلام معاذ بن جبل وغيره ما يرشد إلى هذا المعنى " .
ثم قال " فإذا كان بيناً ظاهراً ، أن قول القائل مخالفٌ للقرآن والسنة ، لم يصح الاعتداد به ولا البناء عليه ، ولأجل هذا يُنقض قضاء القاضي إذا خالف النص أو الإجماع .. " . انظر الموافقات [5/136- 138] .
وقد ذكر الشاطبي بعد ذلك أن زلة العالم لا يصح اعتمادها خلافاً في المسائل الشرعية ، وإنما يعد في الخلاف الأقوال الصادرة عن الأدلة المعتبرة في الشريعة ، أما الأقوال المجردة ، أو التي خفيت فيها الأدلة على العالم المجتهد ، فلا تعد خلافاً .
قلت : ومن هنا تعلم منشأ الغلط في تقليد كثير من العامة لبعض المخالفين من العلماء المجتهدين ، فيقلدونهم في زلاتهم ومذاهبهم الشاذة عن " السنة " ، مع كونها لا تستند إلى دليل شرعي معتبر ، بل هو محض خطأ ليس غير .
وليس كل خلاف جاء معتبرا إلا خلاف له حظ من النظر
4 – ومن استقرأ تراجم رواة الحديث وحملة الآثار وجد من الرواة الحفاظ من رمي بشيء من بدع الاعتقاد ، كبدعة الخوارج والتشيع والقدر والإرجاء وغيرها ، وهي – بلا شك – أعظم من بدع العبادات العملية .
فإذا جاز الخطأ والزلل على أمثال هؤلاء ، فمن دونهم من العلماء أحرى أن يقع في الخطأ ، وأجدر أن لا يعتبر بخلافه ولا يعتد بخطئه .

فصل

وهذا كله على فرض أن المخالف معدود في العلماء المجتهدين ، فأما إن كان غير ذلك فاطراح رأيه ومذهبه وعدم الاعتداد بمخالفته أولى وأحرى .
وكثير من المعظَّمين في الأزمنة المتأخرة ، وفي زماننا خاصة ، ممن ينتسب إلى العلم والمشيخة والرئاسة الدينية في الإفتاء والقضاء ، ممن يظن في نفسه ، أو يظن الناس فيه ، أنه أهل للاجتهاد والفتيا وهو ليس كذلك في حقيقة الأمر .
وفي هذا وأشباهه ورد الحديث الصحيح (( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا )) رواه البخاري [100] ومسلم [2673] .
قال الشاطبي " قال بعض أهل العلم : تقدير هذا الحديث يدل على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل علمائهم ، وإنما يؤتون من قبل أنه : إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم، فيؤتى الناس من قبله ... " إلى أن قال " ما ابتدع عالم قط ، ولكنه استفتي من ليس بعالم .
قال مالك بن أنس : بكى ربيعة يوماً بكاء شديداً ، فقيل له : مصيبة نزلت بك ؟ فقال : لا ، ولكن استفتي من لا علم عنده " .
ثم نقل الشاطبي آثار السلف في التحذير من أخذ العلم من الأصاغر ، وأن السلف فسروا ذلك بأهل البدع ، لأنهم أصاغر في العلم . انظر الاعتصام [2/173- 174] .
قلت : فإذا ترأس الأصاغر في ذلك الزمان القديم في عهد التابعين ، فكيف بزماننا هذا ؟ والله المستعان.

فصل

ومما يجدر التنبيه عليه أيضاً ، أن تتبع زلات العلماء والشيوخ في مسائل البدع يفضي إلى اندراس الشريعة وغلبة البدع والمحدثات ، ويفضي كذلك إلى ترك العمل بالأحاديث والآثار الواردة في هذا الشأن ، لأن البدع غير محصورة بعدد ، ولا يمكن إحصاؤها من عهد الصحابة إلى عصرنا هذا ، ولا يخلو أن يكون لها من ينصرها من الشيوخ والعلماء ، فمن ترخص بكل ما أخطأوا فيه اجتمع فيه الشر كله .
* وأقرب مثال على ذلك : احتجاج بعض من يستحب الاحتفال بالمولد النبوي بقول أبي شامة في الباعث [ ص 29 ] " ومن أحسن ما ابتدع في زماننا من هذا القبيل ما كان يفعل بمدينة إربل ، جبرها الله تعالى ، كل عام في اليوم الموافق ليوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقات والمعروف وإظهار الزينة والسرور ..." الخ .
قلت : وقول أبي شامة هنا يعارض ما أسس عليه كتابه " الباعث على إنكار البدع والحوادث " ، لكنه خطأ عالم مجتهد ، وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية على من استحسن فعل هذا الاحتفال ، وجعله من البدع ، واعتذر في موضع آخر عمن يفعله من الناس جهلاً منه بالحكم الشرعي فقال " والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد، لا على البدع " انظر الاقتضاء [ 2 / 615 ] .
وذكر الشاطبي في الاعتصام [ 1/39 ] من البدع " اتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عيداً".
قلت : لكن أبا شامة ذكر في كتابه " الباعث " جملة من البدع التي أحدثها الناس ، منها : صلاة الرغائب في رجب ، وتخصيص صيام شهر رجب ، وصيام نصف شعبان ، وقيام ليلة النصف من شعبان ، وأطال كتابه في نقض هذه البدع ، ثم ذكر بدع قيام رمضان ، كقراءة سورة الأنعام في آخر ركعة من التراويح ليلة السابع أو قبلها [ ص 137 ] ، وجمع آيات السجدات يُقرأ بها في ليلة ختم القرآن في التراويح [ص 140] ، وبدعة الاجتماع ليلة الختم في التراويح ونصب المنابر [ ص 57 ] وذكر أيضاً بدع الجمعة والخطب [ ص 142 ] وبدع الجنائز [ ص 147 ] ..وهكذا.
ومما جاء في كتاب " الباعث " أيضاً إنكاره لما اشتهر عند الناس من أن الإسراء كان في رجب ، قال أبوشامة " وذلك عند أهل التعديل والتجريح عين الكذب " [ ص 116 ].
قلت : وأكثر من يحتج بقول أبي شامة في الاحتفال بالمولد النبوي يخالفه في جل ما جاء في كتابه من إنكار للبدع والحوادث .
* وقل مثل ذلك فيمن يحتج على بدعته بما يفعله كثير من الشيوخ والقراء في بلاد الحرمين من بدعة دعاء ختم القرآن في تراويح رمضان ، ويحتج بسكوت العلماء على هذه البدعة وعدم إنكارها ، خاصة وأنها تفعل في الحرمين الشريفين .
مع أن من يفعلها أو يقرها ينكر أكثر البدع الأخرى في العبادات والأعياد ، كالاحتفال بالمولد وغيره.
وقد أنكر هذه البدعة ، أعني بدعة دعاء الختم ، بعض العلماء ، منهم الشيخ بكر أبو زيد ، وله جزء مستقل في المسألة ، ووافقه على القول ببدعيتها الشيخ محمد العثيمين - رحمه الله تعالى .
وقد أشرت إلى هذه البدعة وغيرها من بدع قنوت رمضان في جزء مستقل . والمقصود أن تتبع زلات العلماء والشيوخ فيما أخطأوا فيه في مسائل البدع ، نظير تتبع زلاتهم ورخصهم في المسائل الفقهية الأخرى ، وأن ذلك يفضي إلى هدم الدين والملة واندراس معالم السنة ، والله المستعان .
الشبهة الخا مسة : أن هذه البدع من الوسائل
الباعثة على الخير وفيها نفع للعامة
لاشك أن للبدع والمحدثات قبولاً لدى عامة الناس ، إلا من عرف خطرها وتبين له شرها ، ومن تأمل في أحوال الناس رأى كثيراً منهم محافظين على إقامة مراسم البدع وتعظيم مواسمها ، وحضور محافلها ، فيظن من لاعلم عنده أن ماهم عليه خير لهم من أن ينصرفوا إلى المعاصي والملاهي وملذات الحياة الدنيا ، التي جاءت النصوص الصريحة بالتحذير منها والنهي عن اقترافها ، إن كانت من المحرمات أو المكروهات ، أو النهي عن الإكثار منها إن كانت من المباحات .
وهذا ، وإن كان له حظ من النظر ، بادي الرأي ، لكنه في الحقيقة من أخطر الأمور ، لأن انتشار البدع يفضي إلى ترك السنن ، أو التكاسل عنها ، والتهاون عن أداء الفرائض والواجبات فضلاً عن النوافل والمستحبات ، والاستعاضة عنها بالبدع والمحدثات التي هي محض رأي البشر .
وأي ذنب أعظم ، وأي مصيبة أطم ، من السعي إلى إحلال البدع والمحدثات محل ما شرعه رب الأرض والسموات ؟ .
لقد أنكر كليم الله موسى عليه السلام على بني إسرائيل لما سألوه أن يدعو ربه بأن يخرج لهم طعاماً غير الذي اختاره الله لهم { فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } .
فكيف بالذي يروم إبدال شرع مكان شرع ، وإحلال ملة مكان ملة ؟.
ولقد علم بالتجارب والخبرة السارية في العالَم من أول الدنيا إلى اليوم ، أن العقول غير مستقلة بمصالحها ، استجلاباً لها ، ولا بمفاسدها ، استدفاعاً لها ، وأنه لابد لها من الوحي المنزل من خالقها ، الذي هو وحده ، سبحانه ، العالم بما يصلحها ويقيم أمرها .
والابتداع يضاد هذا الأصل ، لأن فاعله إن سئل لم اخترت هذا دون هذا ، ولم رسمت من العبادة كذا دون كذا ، ولم عينت زماناً دون زمان ، أو عدداً دون عدد ، أو هيئة وكيفية دون أخرى ؟ لما كان له جواب شافٍ إلا الإحالة إلى الهوى، أوالعقل ، أو الشهوة .
وما الذي أدراه بأن الذي اختاره أنفع مما تركه وأصلح مما فاته ؟ فلو عارضه آخر وادعى أن بدعته أصلح وأنفع ، فإلى من يُحتكم وإلى من يُخاصم ؟
ولو عارضهما ثالث ثم رابع ... وهلم جراً ، فمن ذا الذي يُرجَّح قوله ويُقدَّم ؟ .
وزَعْم المبتدع أن صلاح أحوال الناس تقتضي إحداث البدع ، يعارضه صريح العقل فضلاً عن صحيح النقل .
فقول النبي صلى الله عليه وسلم (( كل بدعة ضلالة )) ، يناقض زعم ذلك المبتدع ، إذ كيف تكون الضلالة سبيلاً إلى الرشد والصلاح ؟ .
قال الإمام مالك رحمه الله " لا يُصلِح آخرَ هذه الأمة إلا ما أصلح أولها " . انظر الشفا للقاضي عياض [ 2/88 ] .
ولا ريب أن أول هذه الأمة ، وسلفها وخيرها ، لم يَصْلُح بالبدع المحدثة ، بل بالتمسك بالكتاب والسنة .
ثم إن صرف الناس عن المعاصي والملاهي إلى البدع ، كمن يصرفهم عن حرِّ الرمضاء إلى لهيب النار .
إذ المعاصي مهما عظمت ، ما لم تصل إلى الكفر ، فإن مقترفها لا ينسبها إلى الشريعة ، وهو مقرٌّ بلسان حاله ومقاله بتقصيره ، وربما عجز عن فعلها أو تكاسل ، أو سمع واعظ الله في قلبه فترك أو قلَّل ، وإن لم يمنّ الله عليه بتوبة ، فإنه غالباً ما يقلع عنها عند ضعفه و كبر سنه .
بخلاف مقترف البدع ، فإنه ينسبها إلى الشرع ، ثم يظن أنه متقرب إلى الله بها فلا يكاد يقلع عنها ، وكلما ازداد ضعفه وكبر سنه ، ازداد تمسكاً بها وتشبثاً بأذيالها .
ومن هنا قال سفيان الثوري : " البدعة أحب إلى إبليس من المعصية . قيل له لماذا؟ فقال : لأن المعصية يتاب منها ، والبدعة لا يتاب منها ". رواه ابن الجوزي في تلبيس إبليس [ ص 30 ] .
قال الشاطبي " مرتكب المكروه يرى أن الترك أولى في حقه من الفعل ، وأن نفسه الأمارة زينت له الدخول فيه ، ويود لولم يفعل ، وأيضاً فلا يزال – إذا تذكر – منكسر القلب طامعاً في الإقلاع سواء عليه أخذ في أسباب الإقلاع أم لا .
ومرتكب أدنى البدع يكاد يكون على ضد هذه الأحوال ، فإنه يَعُد ما دخل فيه حسناً ، بل يراه أولى بما حدّ له الشارع ، فأين مع هذا خوفه أو رجاؤه وهو يزعم أن طريقه أهدى سبيلاً ونحلته أولى بالاتباع " ؟ الاعتصام [ 2/56] .
ويجدر التنبيه هنا إلى أننا لا نقصد أن كل أفراد المحدثات أعظم في الإثم والعقوبة من كل أفراد المعاصي ، وإنما نقصد أن خطر المحدثات أعظم من خطر المعاصي من حيث العموم والإطلاق .
وإلا فقد يقع الرجل في البدعة ، وتكون بدعته من صغار البدع العملية ، كالتزام رفع اليدين في الدعاء في خطبة الجمعة على المنبر ، أو الذكر عقب الصلوات بهيئة الاجتماع ، أو الاحتفال بيوم المولد النبوي ، ونحو ذلك ، ويكون غرضه من ذلك محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم ، لكنه أخطأ الطريق الأقوم ، وضل عن السبيل الأمثل ، في حين تجد رجلاً آخر مغرقاً في الشهوات ، منتهكاً للمحرمات ، مخلاً بكثير من الفرائض والواجبات ، فهذا أسوأ حالاً ، وأعظم إثماً ومآلاً ، من الأول .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية " وكثير من المنكرين لبدع العبادات والعادات تجدهم مقصرين في فعل السنن .. ولعل حال كثير منهم يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك العبادات المشتملة على نوع من الكراهة " . الاقتضاء [ 2 / 617 ] .
وقال أيضا ً " فمن تعبد ببعض هذه العبادات المشتملة على نوع من الكراهة ، كالوصال في الصيام .. أو قصد إحياء ليالي لا خصوص لها ، كأول ليلة من رجب ، ونحو ذلك ، قد يكون حاله خيراً من حال البطَّال ، الذي ليس فيه حرص على عبادة الله وطاعته " . الاقتضاء [ 2 / 619 ] .
ثم نقول أيضاً : إن حصر الخيار في أمرين :
1 – إما ترك الناس في الغفلة والمعصية .
2 – أو إشغالهم بمثل هذه البدع المحدثة .
قسمة ضيزى ، فثم خيار ثالث ، وهو : دعوتهم إلى الحق والهدى بالحكمة والموعظة الحسنة ، فهذه سنة الأنبياء وسبيل المصلحين ، والأمر بالمعروف لابد أن يكون بالمعروف وهو السنة لا غير ، والنهي عن المنكر لابد أن يجتنب فيه البدعة والمنكر .
وحض الناس كلهم ، محسنهم ومسيئهم ، على العمل بالفرائض والسنن الرواتب والنوافل ، مما هو مشروع جنسه ونوعه ، كالصلاة والصيام والذكر والدعاء ، ودعوتهم إليها ، وتذكيرهم بالآخرة وبالجنة والنار ، في خطب الجمع والأعياد وفي المساجد والمجالس العامة والخاصة التي لابدعة فيها ، هي السبيل الأمثل والطريق الأقوم لإصلاح النفوس وإحياء القلوب .
{أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} .
{ الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء } .
وقد وجدنا في واقع الناس على الدوام ، من يهتدي منهم ويقلع عن المعاصي والآثام ، بالدعوة إلى السنة والأعمال الصالحة المشروعة ، أضعاف أضعاف من يهتدي بغيرها من البدع المحدثة .
ولقد رأيت بنفسي كثيراً ممن تأثر وبكى من العامة والخاصة ، في مجالس الذكر والوعظ المشروعة ، والخطب المسنونة ، ثم تاب من بعدها وعمل صالحاً واهتدى ، وبلغني الكثير من ذلك في أماكن شتى ، فمن زعم أن الناس لا يصلحهم إلا البدع فقد افترى .
وناظرني بعضهم في مسألة الاحتفال بالمولد ، وما يحصل للناس فيه من تأثر بسماع السيرة النبوية ، وربما بكى بعضهم محبة وتعظيماً ، فقلت له لقد كان يحضر لسماع خطب ابن الجوزي ومواعظه أكثر من عشرة آلاف شخص ، وربما بلغ عددهم المائة ألف ، وربما تاب في المجلس الواحد أكثر من ألف شخص .
وبلغني عن بعض دعاة السنة في زماننا ، أنه كان يحضر في خطبه ودروسه الألوف، ولا يُحصى عدد من تاب بسبب مواعظه ، وخَطبَ عن السيرة النبوية ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة خطباً أبكت الكثير .
ويوجد في زماننا هذا من أمثال هؤلاء الدعاة والوعاظ الكثير ، وكلهم – ولله الحمد – من أهل السنة .
والمقصود أن مافي المشروع من الدعوة والموعظة وإصلاح القلوب والأعمال أضعاف أضعاف ما في غيره من المحدث المبتدع .
ثم إنه لو فرض وجود خير ونفع في تلك المحدثات ، فما فيها من شر ومفسدة أعظم ، بخلاف مجالس العلم والوعظ المشروعة ، والخطب المسنونة ، فإنها خير لا شر فيها، ومنفعة لا مفسدة فيها . وانظر ما قاله ابن تيمية في هذا المعنى ، الاقتضاء [2/609] .

فصل

نعم ، توجد مصلحة دنيوية ظاهرة ، في إحياء تلك البدع المحدثة ، لا لعامة الناس ، بل للشيوخ المعظَّمين الذين اتخذوا منها طريقاً إلى الرئاسة على العامة ، وجعلوها مطية يمتطونها لمآرب شخصية .
وقد أشار إلى ذلك معاذ بن جبل رضي الله عنه حيث قال " فيوشك قائل أن يقول : ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن ؟ ماهم بمتبعيَّ حتى أبتدع لهم غيره : رواه أبوداود [ 4611 ] وقد تقدم ذكره .
وقد نقل أبو شامة كلام ابن الجوزي في الصلاة المبتدعة ليلة النصف من شعبان فقال " وقد رأينا كثيراً ممن يصلي هذه الصلاة ، ويتفق قصر الليل فينامون عقيبها ، فتفوتهم صلاة الفجر ويصبحون كسالى . قال : وقد جعلها جهلة أئمة المساجد مع صلاة الرغائب ونحوها من الصلوات شبكة لجمع العوام وطلب لرئاسة التقدم .. " الباعث [ 56 ] .
الشبهة السادسة : الاحتجاج بالأحاديث الضعيفة
في فضائل الأعمال
ومن شبهاتهم الاحتجاج بالأحاديث الضعيفة الواردة في كثير من المحدثات ، كصلاة الرغائب في أول جمعة في رجب بين المغرب والعشاء على صفة مخصوصة وعدد مخصوص ، وكصوم يوم النصف من شعبان وقيام ليلته بمائة ركعة ، وكالتوسعة على الأهل يوم عاشوراء والاكتحال فيه والاغتسال ، ... الخ .
قالوا : وقد أجاز كثير من العلماء العمل بالحديث الضعيف في الترغيب والترهيب وفي فضائل الأعمال .
قلت : والجواب على هذه الشبهة من وجهين :
الأول : أن العلماء لم يتفقوا على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، فمنهم من منع ذلك .
الثاني : أن الذين أجازوا العمل به وضعوا له شروطاً ، نقلها السخاوي في القول البديع عن شيخه الحافظ ابن حجر ، وهي :
أ – أن يكون الضعف غير شديد . فيخرج ما انفرد بروايته الكذاب والمتهم بالكذب ومن فحش غلطه .
ب – أن يكون مندرجاً تحت أصل عام . فيخرج المخترع الذي ليس له أصل من الشرع .
ج – أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته ، لئلا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله .
وقال الشاطبي في الاعتصام [ 1/228-231] " إن ما ذكره علماء الحديث من التساهل في أحاديث الترغيب والترهيب لا ينتظم مع مسألتنا المفروضة .
وبيانه : أن العمل المتكلَّم فيه ، إما أن يكون منصوصاً على أصله جملة وتفصيلاً ، أو لا يكون منصوصاً عليه لا جملة ولا تفصيلاً ، أو يكون منصوصاً عليه جملة لا تفصيلاً .
فالأول : لاإشكال في صحته ، كالصلوات المفروضات ، والنوافل المرتبة لأسباب وغيرها ، وكالصيام المفروض ، أو المندوب على الوجه المعروف ، إذا فعلت على الوجه الذي نص عليه من غير زيادة ولا نقصان ، كصيام عاشوراء ، أو يوم عرفة ، والوتر بعد نوافل الليل ، وصلاة الكسوف .
فالنص جاء في هذه الأشياء صحيحاً على ما شرطوا ، فثبتت أحكامها من الفرض والسنة والاستحباب ، فإذا ورد في مثلها أحاديث ترغيب فيها ، أو تحذير من ترك الفرض منها ، وليست بالغة مبلغ الصحة ، ولا هي أيضاً من الضعف بحيث لا يقبلها أحد ، أو كانت موضوعة لا يصح الاستشهاد بها ، فلا بأس بذكرها والتحذير بها والترغيب ، بعد ثبوت أصلها من طريق صحيح .
والثاني : ظاهر أنه غير صحيح ، وهو عين البدعة ، لأنه لا يرجع إلا لمجرد الرأي المبني على الهوى ، وهو أبدع البدع وأفحشها ، كالرهبانية المنفية عن الإسلام ، والخصاء لمن خشي العنت ، والتعبد بالقيام في الشمس ، أو بالصمت من غير كلام أحد .
فالترغيب في مثل هذا لا يصح ، إذ لايوجد في الشرع ، ولا أصل له يرغِّب في مثله ، أو يحذر من مخالفته .
والثالث : ربما يتوهَّم أنه كالأول ، من جهة أنه : إذا ثبت أصل عبادة في الجملة ، فيسهل في التفصيل نقله من طريق غير مشترط الصحة .
فمطلق التنفل بالصلاة مشروع ، فإذا جاء ترغيب في صلاة ليلة النصف من شعبان ، فقد عضده أصل الترغيب في صلاة النافلة .
وكذلك إذا ثبت أصل الصيام ، ثبت صيام السابع والعشرين من رجب ، وما أشبه ذلك .
وليس كما توهموا ، لأن الأصل إذا ثبت في الجملة لا يلزم إثباته في التفصيل .
فإذا ثبت مطلق الصلاة ، لا يلزم منه إثبات الظهر والعصر أو الوتر أو غيرها حتى ينص عليها على الخصوص .
وكذلك إذا ثبت مطلق الصيام لا يلزم منه إثبات صوم رمضان أو عاشوراء أوشعبان أو غير ذلك ، حتى يثبت بالتفصيل بدليل صحيح ، ثم ينظر بعد ذلك في أحاديث الترغيب والترهيب بالنسبة إلى ذلك العمل الخاص الثابت بالدليل الصحيح .." .
ثم ذكر الشاطبي ما خلاصته : أن تفضيل يوم من الأيام أو زمان من الأزمنة بعبادة ما ، يتضمن حكماً شرعياً فيه على الخصوص ، كما ثبت لعاشوراء مثلاً مزيَّة على مطلق التنفل بالصيام .
فتلك المزيَّة اقتضت مرتبة في الأحكام أعلى من غيرها ، فلابد إذاً من رجوع إثبات تخصيص تلك الأيام المخترعة بصيام أو صلاة ، إلى الأحاديث الصحيحة .
فأصل الغلط في هذه المسألة ناشئ عن عدم فهم كلام العلماء القائلين بجواز العمل بالحديث الضعيف في الفضائل وفي الترغيب والترهيب .
قلت : وقد نبه شيخ الإسلام ابن تيمية إلى هذا الشرط أيضاً ، وهو أن يكون أصل العمل ثابتاً بالأحاديث الصحيحة ، ثم يردُ في فضله ترغيب أو في تركه ترهيب بأحاديث ضعيفة .
قال رحمه الله " لا يجوز أن يعتمد في الشريعة على الأحاديث الضعيفة التي ليست صحيحة ولا حسنة ، لكن أحمد بن حنبل وغيره من العلماء جوزوا أن يروى في فضائل الأعمال مالم يُعلم أنه ثابت ، إذا لم يعلم أنه كذب . وذلك أن العمل إذا علم أنه مشروع بدليل شرعي ، وروي في فضله حديث لا يعلم أنه كذب ، جاز أن يكون الثواب حقاً ، ولم يقل أحد من الأئمة إنه يجوز أن يجعل الشيء واجباً أو مستحبا بحديث ضعيف ، ومن قال هذا فقد خالف الإجماع .
وهذا كما أنه لايجوز أن يحرَّم شيء إلا بدليل شرعي ، لكن إذا عُلم تحريمه ، وروي حديث في وعيد الفاعل له ، ولم يُعلم أنه كذب ، جاز أن يرويه ، فيجوز أن يُروى في الترغيب والترهيب ما لم يعلم أنه كذب ، لكن فيما عُلم أن الله رغَّب فيه أو رهّب منه بدليل آخر غير هذا الحديث المجهول حاله " ا هـ . مجموع الفتاوى [ 1/ 250-251] . وانظر نحو هذا الكلام أيضاً في مجموع الفتاوى [ 10/408 ] .
قلت : ومن هنا كان إنكار الأئمة لصلاة الرغائب والألفية وصيام نصف شعبان ، مع ورود أحاديث في فضلها ، لكنها :
أولاً : شديدة الضعف .
ثانياً : ليس لها أصل ثابت يدل على فضلها ويرغِّب في فعلها .
قال أبو شامة " وأما الألفية ، فصلاة ليلة النصف من شعبان ، سميت بذلك لأنها يُقرأ فيها ألف مرة سورة { قل هو الله أحد } لأنها مائة ركعة ، في كل ركعة يقرأ الفاتحة مرة وبعدها سورة الإخلاص عشر مرات ، وهي صلاة طويلة مستثقلة ، لم يأت فيها خبر ولا أثر ، إلا ضعيف أو موضوع ، وللعوام بها افتتان عظيم " انظر الباعث [ص 50 ] .
قلت : ومن جهل بعض من ينتسب إلى العلم ، أنه استحل الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ، فوضع أحاديث في الترغيب والترهيب ، وفي فضائل الأعمال ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (( من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار )) متفق عليه وهو حديث متواتر .
قال الحافظ ابن حجر " إن بعض الكرَّامية وبعض المتصوفة نُقل عنهم إباحة الوضع في الترغيب والترهيب ، وهو خطأ من فاعله نشأ عن جهل ، لأن الترغيب والترهيب من جملة الأحكام الشرعية " انظر نزهة النظر شرح نخبة الفكر [ص45].
قلت : وأضرب مثالاً يوضح في أي شيء يكون التساهل في أحاديث الترغيب والترهيب .
فصلاة الليل فضلها ثابت بالقرآن والسنة المتواترة ، وقد جاء في الترغيب فيها حديث " عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وهو قربة إلى ربكم ومكفِّر للسيئات ومنهاة عن الإثم " .
قال الهيثمي في مجمع الزوائد [ 2/254 ] " رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه عبدالله بن صالح كاتب الليث .... " الخ .
قلت : ومثل ذلك أحاديث كثيرة وردت في فضل الصدق والأمانة وبر الوالدين ونوافل الصلاة والصيام من غير تخصيص وقت ولا عدد ولا هيئة ولا زمان ولا مكان ولا سبب ، فهذه التي قصد العلماء ، أنه يتساهل في روايتها ، بشرط أن لايكون ضعفها شديداً ، ولا يجزم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قالها .


خاتمة

كلمة جامعة تشتمل على قواعد هامة
قد ذكرت بعض ما احتج به المخالفون واستدلوا به على تحسين بدعهم ومحدثاتهم ، ولولا خوف الإطالة والإملال لذكرت سائر ما يحتج به في هذا الباب.
وأكثر ما يحتج به أهل البدع ، مما ذكرته هنا أو مما أغفلته ، من الشبهات ، لا يصلح أن يكون حجة في دين الله ، لا في مسألة البدعة ولا في غيرها ، وحكايتها تغني عن تكلف الرد عليها ، ولكني أردت الإعذار إلى الله تعالى ، فلعل من يقف على هذا الكتاب ويرى تهافت أدلة المبتدعة ، ممن تلبس بشيء من البدع المحدثة ، أو اغتر بمن يعظمه من شيوخ الضلالة ، لعله يرجع عن بدعته ، ويلزم طريق السنة.
وأختم بحثي هذا بكلمة جامعة تلمُّ شمل ما تناثر في ثنايا الكتاب ، فإني أطلت من حيث لم أرد الإطالة ، وآخر الكلام قد ينسي أوله .
فأقول وبالله التوفيق :
أولاً : الأدلة التي ذكرنا طرفاً منها متواترة من حيث المعنى ، في التحذير من البدع عموماً من غير تخصيص ، ومؤيدة بعمل السلف في القرون الفاضلة .
وأما شبهات المخالفين فهي لا تعدو أن تكون أقيسة عقلية ، أو عمومات و إطلاقات معارضة بمثلها بل بأقوى منها ، وما سوى ذلك من أدلتهم و شبهاتهم ،فإن كان حديثاً أو أثراً ، فهو : إما صحيح غير صريح ، أو صريح غير صحيح ، أو هو حجة عليهم لا لهم .
وإن كان تقليداً لبعض الشيوخ : فهو نقل عن فاضل غير معصوم .
ثانياً : أدلتنا محكمة لا تشابه فيها ، وأما حججهم فهي متشابهة .
ثالثاً : ذكر العلماء في تعارض النصوص وجوهاً ، يبدأ فيها بمحاولة الجمع بينها إن أمكن الجمع ، أو يصار إلى النسخ إن علم المتأخر ، أو الترجيح ، ومعناه : اطراح المرجوح والعمل بالراجح .
فإن تعذر كل ذلك فالتوقف ، وهو ترك العمل بالدليلين .
[ انظر نزهة النظر للحافظ ابن حجر ، ص39 – 40].
ولا ريب أن أدلتنا في التحذير من البدع عموماً ، أرجح من كل وجه من أدلتهم وشبهاتهم ، ولم ينسخها شيء بل أجمع عليها الصحابة وأئمة السلف .
رابعاً : إن القواعد العامة التي دلت عليها الشريعة ، نصت على أنه :
1- ( إذا تعارض حاظر ومبيح قدِّم الحاظر ) .
فلو فرض أن أدلتهم تبيح فعل البدع ، فإنها معارضة بما يحظر فعلها ، وهي أدلتنا .
2- ونصت على أن ( درء المفاسد أولى من جلب المصالح ) .
فلو قدرنا أن في البدع والمحدثات مصالح ، فإن مفاسدها كثيرة ، فتمنع من أجل ذلك.
3- ونصت على ( سد الذرائع ) ، وهي الطرق الموصلة إلى المحرم .
ومعلوم أن فعل البدعة ذريعة إلى اتخاذها سنة وذريعة أيضاً إلى الاعتقاد بأنها مشروعة ، إما واجبة أو مستحبة ، وذريعة إلى اعتقاد أن الشريعة ناقصة .
خامساً : والشريعة مبنية على الاحتياط ، ولما كانت البدع محتملة ومترددة بين البر والإثم ، كان الأحوط تركها ، لعموم الأدلة على ذلك ، ومنها (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) ). رواه الترمذي والنسائي [ جامع الأصول 6/ 443 ] .
ومنها (( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ) ) رواه البخاري [ 1/ 116 ] ومسلم [ 1599 ] .
سادساً : ( الأصل في العبادات المنع والحظر) حتى يأتي دليل على الفعل ، بخلاف العادات ، فإن الأصل فيها الإباحة حتى يأتي دليل على منعها .
سابعاً : أنه لو فرض جدلاً أن بدعهم داخلة ضمن فعل المأمورات ، فإنها معارضة بأحاديث النهي ، كقوله صلى الله عليه وسلم (( إياكم ومحدثات الأمور )) . وقد فرَّق النبي صلى الله عليه وسلم بين فعل المأمور وترك المحظور ، فقال (( فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم و إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ) ) رواه مسلم [ 1337 ] .
فاجتناب المنهيات مستطاع كله ، لأنه ترك ، بخلاف فعل الأوامر .
[ وانظر الأشباه والنظائر لابن نجيم 1/125 ، والموافقات للشاطبي 3/ 536 ] .
ثامناً : وفعل البدع تكليف على العباد ، ولا تكليف إلا بدليل ، والأصل براءة الذمة من ذلك التكليف .
[ انظر الموافقات 5/ 337 ] .
تاسعاً : وفعل البدع زيادة في العبادة ، وهو من الغلو الذي نهانا عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (( وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)) رواه النسائي [ 5/ 268 ] .
عاشراً : ولو فرض أن بدعهم حسنة ، وأنها داخلة في عموم المندوبات ، فإن تركها أولى ، لأن ترك السنة أهون من اقتحام البدعة .
فقد نص إمام الحرمين في كتاب النهاية على أن المتوضئ إذا شك ، فلم يدر أغسل وجهه مرتين أو ثلاثاً ، فإنه يقتصر على ما جرى منه ، وعللّ ذلك بأن قال " فإنه إن غسل مرة أخرى كانت مترددة بين الرابعة ، وهي بدعة ، وبين الثالثة ، وهي سنة ، وترك السنة أهون من اقتحام البدعة " اهـ . انظر الباعث [ ص 102 ] .
قلت : وأكتفي بما ذكرت ، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا لاتباع السنة واجتناب البدع المحدثة وأن يثبتنا على ذلك حتى نلقاه ، وآخر دعوانا أن الحمدلله .

وكتب سمير بن خليل بن محمد المالكي الحسني
نزيل مكة شرفها الله
1 / 7 / 1428 هـ
جوال ( 0591114011 )

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق