السبت، 3 سبتمبر 2011

الإنصاف في الفتوى والخلاف

الإنصاف في الفتوى والخلاف
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .
أما بعد ، فإن  من سنن الله الكونية القدرية التنازع  والاختلاف  في  المسائل الشرعية  ،  ولم  يزل  حال الأمة على ذلك  من عصر النبوة ،     و عصر الخلافة الراشدة ، واستمر الخلاف في كثير من فروع العبادات و المعاملات وفي الحلال والحرام ، وكان خلافا مؤصلا  ومؤسسا  على  قواعد  الشرع  ومنضبطا  بآداب  الإسلام التي أمر الله  بها  و رسوله عليه الصلاة والسلام  .
وقد كان من أهم وأعظم ما يضبط مسائل الفتوى و الخلاف  وجود  العلماء الربانيين الذين كانوا  يسوسون العامة وطلاب العلم  ويضبطونهم  بتلك الضوابط الشرعية ،  وكانوا  يطبقونها  عمليا  ، ولا  يكتفون  بتعليمها  وتقريرها  لهم  نظريا  فحسب .
                **********
ومن أهم  قواعد  الفتوى  ،  التي حرص  أئمة السلف على العمل  بها وتعليمها :
1 _ ضرورة الاستدلال  بالأدلة الشرعية في كل  مسألة  ،  صغيرة كانت أم كبيرة  ، ومن أفتى منهم بالرأي ، فلم  يكن  رأيا  محضا  ،  بل هو استنباط من النصوص أو قياس عليها  ، وكثيرا  ما  كانوا  يطلقون الرأي على القياس  .
أما الرأي المحض ، فقد عابوه  وأغلظوا  القول فيه وفي أصحابه .
قال الله تعالى { ولا  تقف ما ليس لك به علم } .
وقال سبحانه { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها  وما بطن والإثم والبغي بغير الحق  وأن تشركوا  بالله  ما لم  ينزل  به  سلطانا وأن تقولوا  على الله ما لا تعلمون } .               

              ********** 
2 _ ومن قواعد الفتوى ، التجرد لله  وقصد إصابة الحق و تحري العدل ، مع الموافق والمخالف .
وقد كان أئمة السلف  أتقى  لله  وأنصح  للناس ، من أن يحابوا  أحدا  من الخلق  في  دين  الله ،  أو أن يشتروا  ثمنا  قليلا بآيات الله .  
و كانوا  أبعد الناس عن مخالطة الأمراء والخلفاء  بعد عصر الراشدين ، حذرا  من  الوقوع  في الفتنة ، وهي : إما بالسكوت عن الحق ، وإما  بالرضا  و المتابعة في الباطل  .
هذا  مع  ما  كانوا عليه  من  الورع  والتقوى ، ومع ما كان عليه الخلفاء في تلك القرون الفاضلة ، من العلم و الصلاح  ، وتحكيم شرع  الله  ، والجهاد في سبيله ، والذب عن حياض الإسلام وحرمات المسلمين ، و كان الدين في ذاك الزمان  ظاهرا  على كل  الأديان  .
قلت : ومع  ذلك  فإن  أئمة  الإسلام   كانوا  بمنأى  عن بلاط السلطان وعن ولاياته .
@ و إليك هذه القصة  : كان الإمام ابن المبارك  يصل  بعض  علماء  زمانه بمال ، ومنهم  إسماعيل بن علية ، وهو  من كبار أئمة الحديث ، وكان يلقب ب  " ريحانة الفقهاء " ، و" سيد المحدثين " .
ولما قبل ولاية القضاء ، أو الصدقات ، في عهد الخليفة المجاهد الصالح  هارون الرشيد ، هجره  ابن المبارك وقطع  عنه  الصلة ، ثم أرسل إليه هذه الأبيات :
يا جاعل العلم له بازيا &
يصطاد أموال المساكين
احتلت للدنيا  و لذاتها   &
بحيلة  تذهب  بالدين
فصرت مجنونا بها بعدما &
كنت دواء للمجانين
أين رواياتك فيما مضى &
عن ابن عون وابن سيرين
أين رواياتك في سردها &
في ترك أبواب السلاطين
إن قلت أكرهت فذا باطل &
زل  حمار العلم في الطين
فلما بلغته هذه الأبيات دخل على الرشيد  و سأله الإعفاء من منصب القضاء . [ انظر التهذيب  1 / 275 ] .
قلت : ومن رضي من أولئك العلماء  بمخالطة الخلفاء و الأمراء ، أو بقبول  بعض الولايات الدينية ، فإنما قصد  به  إحقاق الحق  و إقامة  العدل ومناصحة  ولاة  الأمر  . 
               **********
3 _ ومن القواعد المهمة مراعاة الخلاف ، والأدب مع المخالف .
لقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ، واختلفوا كثيرا بعد مماته ، لكن اختلافهم لم يكن تعصبا لقوم أو لبلد أو لمذهب ، ولم يكن عن هوى أو لنيل مأرب ، ولهذا كانوا يحترمون الرأي الآخر  ، حتى لو عارضوه ،  وكانوا محافظين على  الأخوة ونبذ الفرقة ، وعلى التأدب بالآداب الشرعية ، قبل وبعد الخلاف .
وسلك التابعون  ومن  بعدهم  في ذلك  الأدب  مسلكهم .
وأكبر دليل على ذلك ، اختلاف الأئمة في مسائل كثيرة في الفقه والتفسير والحديث و اللغة  ، مع شيوخهم وأقرانهم وتلاميذهم ، ولم يحجر أحد منهم على أحد ، أو يعنفه ، فضلا عن أن يعاديه  أو  يهجره . 
                **********
4 _ وكانوا  أحرص الناس على مراعاة
أحوال الناس والمصالح العامة ، وربما سكتوا عن الكلام في المسألة درءا  للفتنة و المفسدة  .
وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه " حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله " . رواه البخاري [ 127 ] .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه
" ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم ، إلا كان لبعضهم فتنة " .
رواه مسلم [ 1 / 11 ] في مقدمة صحيحه .  
وفقه المصالح والمفاسد وسد الذرائع
من أعظم أبواب العلم ، بيد أن بعض شيوخ هذا  الزمان أغفلوه ولم يرفعوا  به  رأسا  ، جهلا  منهم بهذا الباب العظيم ، أو تجاهلا .
وبعضهم إنما يحصره  في دائرة معينة ،  وهي : موافقة مذاهبهم وموالاة أصحابهم  ، أو متابعة  أهواء الأمراء  والسلاطين  ومداهنتهم  في سياساتهم المخالفة  للدين .
وكثير من الشيوخ اليوم لا يلقي بالا لافتتان الناس وتنفيرهم عن الدين ، ولا يحسن الأدب في معاملتهم ومخاطبتهم  ، ويجازف بإلقاء التهم والمعايب ، على كل من خالفهم أو انتقدهم  ، ولو كان على صواب !    
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم كبار أصحابه من فتنة الناس عن الدين ، فقال لمعاذ رضي الله عنه    " فتان ، فتان ، فتان " . رواه البخاري [ 701 ] .
وغضب أشد الغضب على من أطال في صلاته وقال " أيها الناس إنكم منفرون " . رواه البخاري [ 90 ] .
وقال " بشروا ولا تنفروا " . رواه البخاري [ 69 ] .
قال الحافظ في الفتح [ 1 / 163 ]    " وكذلك الزجر عن المعاصي ينبغي أن يكون بتلطف ليقبل " .
وقال عمر رضي الله عنه " لا تبغضوا إلى الله عباده " . ذكره الحافظ في الفتح [ 2 / 195 ] وصحح إسناده .
             **********     
5 _ ومن أهم قواعد الفتيا والخلاف التوسط والاعتدال ، في الحكم  على الأقوال و الأفعال ، وعلى الرجال .
والوسطية من سمات هذه الأمة العلية ، في المسائل العقدية ،  والعملية .
ومن التوسط في أمور الدين الحكم على المعاصي وأهلها  ،  فإن الفرق المبتدعة  قد  تطرفت في ذلك .
فالخوارج كفروا عصاة المسلمين واستباحوا  دماءهم  وأموالهم ، والمرجئة قالوا : لا يضر مع الإسلام ذنب ، كما لا ينفع مع الكفر طاعة .
وأهل الحق  توسطوا في الحكم ، فلم يكفروا  بالعصيان ، ولم يمنحوا أهلها صكوك الغفران ، و جعلوا مرد ذلك إلى مشيئة  الرحمن  .
وقالوا في مرتكب الكبائر ، عدا الكفر و الشرك " مؤمن  بإيمانه ، فاسق بعصيانه " .        
ومسألة التكفير قد تساهل فيها بعض المنتسبين للعلم و المشيخة اليوم ، فأفتوا  بالكفر في مسائل مختلف فيها في الحلال والحرام .
يقول ابن تيمية عن الخوارج " وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع  ،  لم يكفروا  ، مع أمر الله و رسوله صلى الله عليه وسلم  بقتالهم  ، فكيف  بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم ؟
والأصل : أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض ، لا تحل إلا بإذن الله ورسوله " . انتهى باختصار .
المجموع [ 3 / 282 ] .  
وقال رحمه الله " وقد وقع الخطأ كثيرا لخلق من هذه الأمة ، واتفقوا  على عدم تكفير من أخطأ  .. " ، ثم ذكر أمثلة لذلك .
ثم قال " وكذلك بعض العلماء أنكر حروفا من القرآن ، وبعضهم كان حذف المعوذتين ، وهذا الخطأ معفو عنه بالإجماع .
وكذلك الخطأ في الفروع العملية ، فإن المخطئ فيها لا يكفر ولا يفسق ، بل ولا يأثم .." .
ثم ذكر ابن تيمية خطأ بعض السلف في استحلال بعض أنواع الربا ، والخمر ، والقتال في الفتنة ، ولم يكفروا بذلك .
انظر مجموعة الرسائل والمسائل
[ 3 / 346 _ 347 ] . 
وقد احتاط أئمة السلف في التكفير بلوازم القول والعمل .
خذ مثلا على ذلك : بدعة الأشاعرة ،
فإن من لوازم قولهم في القرآن ، أنه مخلوق ، ومعلوم أن القول بخلق القرآن كفر ، لكن السلف لم يكفروا الأشاعرة ، مع أن ابن تيمية صرح بأن قولهم في القرآن هو قول الجهمية  و شر من قول المعتزلة .
انظر مجموعة الرسائل والمسائل     [  4 / 429 ] .
وقل مثل ذلك في لوازم قول الأشاعرة في مسائل الإيمان والصفات والنبوة ، وغيرها .
والكلام في تحرير مسألة التكفير بالأقوال والأعمال ولوازمها  يطول جدا .
والمقصود : أن العدل والتوسط في الأحكام ،  هو من قواعد الإسلام ، ومما  حرص على تطبيقه  الأئمة الأعلام .
                  **********
ومن ثم ، كان لزاما  على أهل العلم والفتوى ، في هذا الزمان ، أن يضبطوا مسائل الخلاف بمثل تلك القواعد العظام ، وأن يتأدبوا  بآداب الكتاب و السنة  ، وبما كان عليه سلف هذه الأمة ، فإن الفتنة بين الناس في الدين قد ظهرت وفشت ، ولا بد من التعاون على التقوى و جمع الكلمة ونبذ الفرقة ، وأن تحصر مسائل الخلاف في أضيق نطاق ، ونحن أهل السنة أولى بأن نتداعى إلى الحوار و التعايش والتقارب ، قبل أن ندعو غيرنا من أهل الملل والنحل المخالفة إلى ذلك .
إن مسائل الخلاف بيننا _ معشر أهل السنة والجماعة _ مهما كثرت ، فإنها لا تعدو  أن تكون من مسائل الفروع ، ولا خلاف بيننا في أصل من أصول الدين والملة .
و إنا لا ندعوا  إلى ترك الخلاف في مسائل الخلاف ، فإن هذا  من المحال
إلا ما شاء الله ،  ولو كان في ذلك خير  للأمة  لسبق  إليه سلف الأمة .
لكننا ندعوا  إلى الأدب في الخلاف  والحكمة فيه ، وتضييق نطاقه ما أمكن ، سدا لذريعة الفتنة و الفساد في الدين والبلاد و العباد .
إننا  دعاة  ، " لسنا قضاة ولا بغاة " ، و إن علينا  أن  نكون قدوة حسنة للناس في كل أمورنا ، خاصة في المعاملة مع من خالفنا ،  وأن نتأدب بآداب الإسلام  ، وأن ننشر في الأنام  العدل  والسلام  .
               **********
و تكفير المخالف في مسائل الفروع ، كمسألة  الاختلاط  في التعليم و العمل  ، يعد من التطرف في الحكم  والفتيا ، لأن  أصل الاختلاط ، بمعنى : وجود الرجال والنساء في مكان واحد ، وإن تقاربوا ، ليس محرما على إطلاقه ، بل هو مباح في بعض الأحوال ، كما دلت عليه النصوص ، وكما كان عليه الناس في عصر النبوة والقرون الفاضلة .
ولم تحد الشريعة الإسلامية حدا معينا  للتقارب  بين الجنسين .
نعم ، فهمنا من مجمل النصوص في الكتاب و السنة ، ومن فتاوى الأئمة ، أن التباعد مطلوب ، لكن  حدود ذلك ليست منضبطة .
ونرى أن الاختلاط في ميادين التعليم والعمل ذريعة إلى الفساد والفتنة ، لكنه  يظل  رأيا و اجتهادا ، ليس فيه نص  محكم  ولا  إجماع  متيقن  ،   وحكمه ظني لا قطعي  ، كغيره  من المسائل الفقهية  المستنبطة بالرأي والاجتهاد  من عمومات النصوص     و قواعد الشرع .   
وقد علل  من أفتى بكفر من استحل الاختلاط  الحكم  ببعض الإلزامات  ، منها : أن الاختلاط في التعليم ونحوه ، يستلزم النظر المحرم ، والكلام المحرم ، والخلوة المحرمة ... وأن من أباح هذه المحرمات فهو مرتد !
قلت : أولا : قد تقرر أن أصل المسألة  _ وهي الاختلاط _ محل خلاف .
وثانيا : لا يلزم  من  الاختلاط  وجود  تلك المنكرات  .
وثالثا : إن تلك الأمور ( النظر والكلام والخلوة )  ، ليست من المحرمات  المجمع على تحريمها ، بل هي مختلف فيها .
وقد أباح بعض الأئمة من السلف والخلف نظر الرجل إلى المرأة من غير شهوة  ، وأباحوا  كشفها  عن وجهها  .
فكشف الوجه مختلف فيه ، والنظر مختلف فيه أيضا .
ثم من قال إن كل المختلطات حاسرات عن وجوههن ؟
ألسنا نرى  كثيرات من العاملات العفيفات في المستشفيات والمعامل وغيرها ، منقبات ؟
وأما نظر المرأة إلى الرجل من غير ريبة ، فهو أقرب إلى الإباحة ، كما دلت عليه بعض نصوص السنة ، كنظر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى الحبشة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم  ،  وكما  هو  مذهب طائفة من علماء السلف والخلف .
وأما الكلام ، فلا شك أن الأصل فيه الإباحة بنص القرآن ،  بالشروط المعتبرة .
ولا يستلزم  الاختلاط حصول كلام خارج عن حدود الأدب ، فإنه قد يحصل وقد لا يحصل  .
وأما الخلوة ، فقد تقع أحيانا ، لكنها ليست متحققة في كل اختلاط .
ثم الخلوة نفسها فيها تفصيل و خلاف وقد أباحها بعض العلماء ، مع أننا نرجح تحريمها  بموجب  النصوص الصريحة في حكمها ، لكنها ليست كالمحرمات الكبرى المجمع عليها .
ثم نقول : إن على العالم أن يراعي أحوال الأمة ، فإن فتواه لا تخص بلدا دون بلد ، وقد عمت البلوى في كل بلاد الإسلام  بمثل هذا  الاختلاط ، ولم تسلم منه  بلد قط .
فلا ينبغي أن يطلق  مثل ذلك الحكم ، الذي يستلزم تكفير كثير من  علماء المسلمين و جماهير عوامهم !
إننا نرى أن الاختلاط في ميادين التعليم وغيره محرم ،  سدا للذريعة ، لكننا لا نفسق من يفعله ، ولا من يخالفنا في الحكم عليه ، فضلا عن أن نكفره .
ولم يبلغنا  أن  أحدا  من  الأئمة السابقين قد أفتى بالتكفير .
ولو فرض وجود من أفتى  به  فإن الحكمة تقتضي كتمانه لا إعلانه .                   

             **********     
و أما ما ذكره بعض الفضلاء  من اقتراح  بإعادة بناء المسجد الحرام  على شكل أدوار متعددة ، وتخصيص بعضها لطواف النساء دون اختلاطهن بالرجال !
فإننا  وددنا  لو أنه سكت عن مثل هذا الاقتراح في مثل هذا المكان والزمان والحال .
فإن هذه الكلمة قد طار بها من يتصيد في الماء العكر ، وكان الأولى بالفاضل" المقترح " عدم إثارة مثل هذا الكلام ، فإن اختلاط النساء بالرجال في الطواف قد وجد في الإسلام من عصر النبوة ، و كن يطفن من وراء الرجال ،  ولا أظن أن كل النسوة في كل تلك العصور السالفة قد التزمن بما التزم به الفضليات في عصر النبوة .
وقد رأى  أئمة الإسلام مثل ذلك الاختلاط وقت الزحام ، ولم يقترحوا مثل ذلك الاقتراح .
ولا نقصد أن  نحجر على هذا الفاضل وغيره  من الغيورين على حرمات الدين ، أن يقترحوا ما فيه مصلحة للإسلام والمسلمين ، لكن طرح  ذلك  على مسامع العوام ، بتلك الطريقة ، وبذلك التعليل ، قد أثار حفيظة الناس واستنكروه ، فإن أكثرهم لا يرى بأسا في  الاختلاط أصلا ، و كلهم  يرون  إباحته في الطواف قطعا .
ثم مجرد إطلاق القول بهدم وبناء المسجد الحرام ، أو  جزء  منه ، يثير الأمر ، خاصة عندما ينطق به من لا نهي له ولا أمر  ، وخاصة إذا علل ذلك بمسألة الاختلاط ، الذي هو مباح أصلا في هذا المكان !
وقد راعى رسول الله صلى الله عليه عليه وسلم مشاعر بعض الناس في هدم الكعبة  و إعادة  بنائها  على قواعد إبراهيم ، فترك ذلك ، درءا  للفتنة ، هذا وهو نبي الأمة، و صاحب الأمر والنهي في الأمة  !
وليس في طرح مثل هذه الأمور العظام على الملأ أي فائدة ترتجى ، إلا الفتنة والتشويش ، وإعطاء الفرصة للمرجفين  بأن يسخروا من من شيوخ المسلمين  ، بل ومن كل تعاليم الدين  .
وقد نهانا الله عن سب آلهة الكفار حتى لا  يتجرأوا  على  سب  الله تعالى ، وهي قاعدة في سد كل ذريعة تفضي إلى المفسدة  .
وأيضا : فإن مثل هذا الاقتراح ينبغي أن يطرح على  ولاة  الأمر المعنيين  ، لا على عوام المسلمين .
وليت هذا الفاضل " المقترح " قام  بالاعتذار أو التراجع عن كلامه ، بدلا من أن يصعد القضية ، ويشتغل  بالتبرير  والرد على من شنع عليه . 
وقد اشتغل بعض طلبة العلم بالذب عنه ، لكن بعضهم تطرف في العبارة و تعنت في النقد .
وقد تطرف أحد الفضلاء ،  فذكر أن  منتقدي ذلك " المقترح "  قد فجروا  في الخصومة  ،  وشبههم  ب " اليهود في البهتان " !
وأعجبتني مقالة  الدكتور محمد الحربي في عكاظ 24 / 4  بعنوان
" كتابنا  كاليهود  يا شيخ  " ؟
فقد تأدب جدا في نقده ، وتلطف في مقاله  ، الذي ختمه بقوله :
" يا شيخ .. يا دكتور .. الأحمد أخطأ ،
ومن الفضيلة أن يعتذر ، ومن تجنوا عليه أخطأوا  ومن الفضيلة أن يعتذروا  له ، وأنت أخطأت  ومن الفضيلة أن تبادر باعتذار كبير جدا جدا لنا جميعا " . انتهى . 
وأنا أنصح إخواني من أهل العلم ، أن يتركوا إثارة القضايا الشائكة ، أو المختلف  فيها عبر القنوات الفضائية ، فإن ضررها أكبر من نفعها ، في ظني ، وكثيرا ما ينساق المتحدث طوعا أو كرها للكلام في أمور ، بحسب ما يمليه مقدم البرنامج ، أو بحسب ما يرغبه الجمهور .
كما أنصحهم بترك التشنج والانفعال  في الرد على مخالفيهم ، وترك التعنت في الذب عن موافقيهم ، فإن العدل مأمور به في كل حال .  
                ********** 
و ليس من الأدب استعداء السلطة على العلماء ، وإن أخطأوا ، كما يفعل بعض الشيوخ اليوم  ، فإن هذا من سنن أهل البدع في الدين ، ومن صناعة المفلسين ،  لا من هدي المصلحين .
والتأريخ يشهد بأن أئمة الدين لم يستعدوا  الخلفاء  والأمراء حتى على مخالفيهم من أهل البدع و الأهواء ،  فضلا عمن خالفهم  في مسائل الفروع  من العلماء  .
لقد استعدى ابن أبي دؤاد الخلفاء على الإمام أحمد و أئمة السنة ، في محنة خلق القرآن .
واستعدى بعض قضاة السوء الأمراء  على ابن تيمية ، فسجن  بسبب مخالفته لهم  في مسائل عقدية ، ذكرها في " الواسطية " ، و مخالفته لهم في مسائل عملية ، في الطلاق وشد الرحال إلى القبر النبوي .
ولم يفعل ابن حنبل ولا ابن تيمية ولا غيرهما من أئمة الهدى ، مثل ذلك الاستعداء  ، حين  صارت لهم مكانة ووجاهة لدى الخلفاء .
وإنك لتعجب أشد العجب من صنيع بعض شيوخ هذا الزمان ، في سكوتهم عن إنكار أكثر المنكرات الظاهرة المعلنة ، ثم يتتبعون  بشغف هفوات وهنات المصلحين ويتصدون لها بالرد والتعقيب بحماسة بالغة !
وليتهم يتقيدون  بالآداب الشرعية  مع مخالفيهم ،  بل يغلظون في الإنكار ، ويستعدون عليهم ولاة السلطة والأمر  !
وليت شعري ، أين كانت غيرة أولئك الشيوخ " المستعدين " ، وحرصهم على مصالح الأمة و الدين   ، تجاه ما ينشر ويقال ويفعل ، من دعاة الشهوات والبدع والمنكرات ؟!
ولماذا لم يطالبوا  بتأديب دعاة السوء ، وكف شرهم عن الأمة ،  أم إنهم يرون أنه  لم يبق في الأمة  من  يحتاج  إلى الردع  و التأديب ،  لكف  شره وأذاه ، إلا من أخطأ من الشيوخ والمصلحين و الدعاة ؟!
وبعد ، فإني أسأل الله تعالى أن يهدينا جميعا إلى ما يحبه ويرضاه من القول والعمل ، وأن يجمع كلمتنا على الحق والعدل ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وكتب : سمير المالكي
0591114011
26 / 4 / 1431             

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق