الجمعة، 17 يونيو 2016

أدب الدعاء في الخطب والصلاة

أدب الدعاء في الخطب والصلاة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .
أما بعد ، فالدعاء عبادة ، ومقامه وفضله عظيم .
وأكمل الدعاء وأزكاه وأفضله - بلا خلاف - ما ورد في نصوص الكتاب والسنة .
ومن بدّله بالأدعية المخترعة ، فقد ترك الأفضل واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير .
ولو فعل الداعي ذلك أحياناً ، فلا بأس فيه ، ولا حرج عليه ، لكن لا على أن يجعل الأصل والأكثر في دعائه بالأدعية المخترعة .
ومقام الدعاء الجماعي ، في الصلوات وفي الخطب ، أدعى إلى أن يتحرى فيه المأثور ويدَع المخترع .
وقد درج أكثر القرّاء والخطباء في هذا الزمان على التطويل في الدعاء ، خاصةً بالأدعية المخترعة .
كما درجوا على التكرار في الدعاء بتفصيلات ، لم ترد في السنة .
ومقام الخطبة مقام تعليم ، فلو داوم الخطيب على الأدعية المأثورة الواردة في النصوص ، فإن هذا أدعى لحفظ الناس لها وتعلمها .
ومن صور التفصيل في الدعاء المخترع قولهم :
اللهم اغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا ولإخواننا وأخواتنا وأبنائنا وبناتنا وذرياتنا وعلمائنا وجيراننا .. الخ .
مع أنه كان يكفيه أن يدعو للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات .
وربما زاد بعضهم : وملوكنا وأمرائنا ووزرائنا وعلمائنا وقضاتنا ومشايخنا وضباطنا وجنودنا وو .. الخ .
فيأتي آخر ويزيد عليه : ومعلمينا ومهندسينا وأطبائنا وممرضينا .. وهلمّ جرّاً .
ويخشى على من استرسل في هذا أن يكون ممن يعتدون في الدعاء .
وقد سمع سعد ابنه يقول في دعائه : اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وبهجتها وكذا وكذا ..
وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها وكذا وكذا فقال يا بني ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " سيكون قوم يعتدون في الدعاء " ، فإياك أن تكون منهم ، إن أُعطِيتَ الجنة ، أُعطِيتها وما فيها ، وإن أُعِذتَ من النار ،
أُعِذتَ منها وما فيها من الشر . [ سنن أبي داود 1480 ] .
وعن عبد الله بن المغفّل أنه سمع ابناً له وهو يقول : اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة . فقال له : يا بني ، إذا سألت فاسأل الله الجنة ، وتعوّذْ به من النار ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " يكون في آخر الزمان قوم يعتدون في الدعاء والطهور " . [ سنن أبي داود 96 ، ومسند أحمد 4 / 87 ] .
وإنك لتعجب من فعل أكثر خطباء هذا الزمان من الإصرار على الدعاء بالأدعية المخترعة التي يجتهدون في اختيار ألفاظها ، وربما تنافسوا على ذلك الاختراع ، فكلٌ يدلي بما يشاء ، يريد أن يكون دعاؤه أجمع ، أو أمتع ، أو أدمع !
وبعض الخطباء يبدأ بالأدعية المخترعة ، ويطيل فيها ، ثم يختمها ببعض الأدعية المأثورة في القرآن والسنة ، وربما يسردها على عجل ، كأنه إيذان بختام الخطبة ، حتى إنك تلحظ الجالسين وقد تهيأوا للقيام للصلاة ، بمجرد ما يبدأ الخطيب بالدعاء بها !!
ومعلوم أن مقام الخطبة يطلب فيه الإقصار والاختصار ، لما ثبت في الصحيح والسنن من الأمر بذلك .
كيف وإن علم بأنه لم يثبت في السنة ، ولا في آثار الخلفاء الراشدين المداومة على الدعاء في الخطب ، إلا في خطبة صلاة الاستسقاء، أو في الاستسقاء في خطبة الجمعة .
أما فيما سوى ذلك ، من خطب الجمعة والعيدين فالأدلة التي وردت في الدعاء ، إنما هي مجملة ، كحديث عمارة بن رويبة - في صحيح مسلم - لما أنكر على بشر بن مروان رفع الأيدي في دعائه على المنبر يوم الجمعة ، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير بأصبعه في دعائه .
وليس فيه ما يدل على مداومته صلى الله عليه وسلم على الدعاء في كل جمعة .
وعلى فرض صحة المداومة عليه ، لما ورد من آثار في ذلك ، ولما ذكره أكثر الفقهاء من استحبابه [المغني3/179، والمجموع 4/521] فليس فيه أنه كان يطيل فيه .
والمأثور في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم اختيار جوامع الكلم ، والاختصار فيه وترك التطويل ، ومن ذلك دعاء الاستسقاء في خطبة الجمعة ، فإن كلامه معدود ، وكدعائه في قنوت النوازل ، لا يتعدى السطرين .
ثم نقول : ثبت في السنة الإكثار من قراءة القرآن  في خطبة الجمعة ، خاصةً سورة ق ، وذلك مما هجره أكثر الخطباء اليوم ، ثم تراهم يديمون الدعاء ، ويطيلون فيه !!
واعتبر بما فعله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة ، بمشهد من تلك الجموع الغفيرة ، التي لم تجتمع مثله قط قبل ذلك اليوم . فإن كل من ساق الروايات في خطبة الوداع ، وأشهرهم جابر بن عبد الله ، لم يذكر أنه دعا بشيء ، لا أثناء الخطبة ، ولا في خاتمتها ، ولو فعل ذلك لنقل لنا ، بل الثابت المنقول أنه اكتفى بخطبة قصيرة ، ذكر فيها مسائل جامعة ، ربما تكتب في صفحة ، وتقال في أقل من خمس دقائق ، ثم صلى الظهر والعصر ، ثم وقف يدعو وحده إلى الغروب .
هذا مع قوله صلى الله عليه وسلم "أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة .." الحديث .
فلو كان الدعاء في الخطب مطلقاً - عدا الاستسقاء - مما ينبغي الاهتمام به والمداومة عليه ، لنقل ذلك في كل الجمعات والعيدين ويوم عرفة ، فلما لم ينقل ذلك في السنة ، ولا عن الخلفاء الراشدين ( فيما نعلم ) ، دل ذلك على أن الأولى ترك المداومة عليه ، أو على الأقل : ترك التطويل فيه والإملال .
وأنت ترى فعل أكثر خطباء هذا الزمان على النقيض من ذلك ، خاصةً خطبة يوم عرفة ، ففيها تطويل ممل ، في الكلام والدعاء ، قد زاد عن حدّه واستفحل ، فالله المستعان .
ومثل ذلك يقال في قنوت الوتر في قيام رمضان ، فإنه ، أولاً : لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قنت في الوتر ، لا في رمضان ولا في غيره .
ثانياً : ودعاء القنوت الذي علّمه الحسن بن علي مختصر .
ثالثاً : والثابت عن عمر أنه قنت بدعاء أطول قليلاً من قنوت الحسن .
وأين هذا مما نسمعه اليوم في مساجدنا من تطويل إلى درجة الإملال وأكثره دعاء مخترع ، وفي خاتمته يسرد الإمام الأدعية المأثورة في القرآن على عجل ، يهذّها هذّ  الشعر ، وينثرها نثر الدقَل ، كأنها تحصيل حاصل ، فيا لله العجب !
ويلاحظ في أدعية القنوت ، إصرار كثير من القراء على الزيادة على الدعاء المشهور " اللهم اهدنا فيمن هديت .. " ، فيزيدون عليه في آخره : لك الحمد على ما قضيت ، ولك الشكر على ما أعطيت ، نستغفرك اللهم من جميع الذنوب والخطايا ونتوب إليك !!
وهذا كأنه استدراك على النبي صلى الله عليه وسلم ، فيرى أن دعاءه بهذه الزيادة المحدثة أكمل وأفضل !
وكما في دعاء " اللهم اقسم لنا من خشيتك .." فيزيدون عليه : واجعل الجنة هي دارنا وقرارنا برحمتك يا أرحم الراحمين .
والزيادة على ما ورد في دعاء " أن تجعل القرآن ربيع قلوبنا .. " ، فيزيدون عليه " أن تجعل القرآن الكريم .. " ويزيدون " اللهم علمنا منه ما جهلنا .. الخ .
وقد ثبت في الصحيح إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على البراء بن عازب ، لما أبدل كلمة نبيك ، بكلمة ؛ رسولك ، في دعاء النوم .
والله تعالى أعلم .


وكتب سمير بن خليل مالكي
مكة المكرمة
الجمعة

١٢/ رمضان/ ١٤٣٧هـ

"الاحتفال بالنصف من شعبان "

"الاحتفال بالنصف من شعبان "

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن استن بسنته واهتدى بهداه .
أما بعد ، فهذا بحث مختصر في حكم الاحتفال بيوم النصف من شعبان وليلته ، بذكر أو دعاء أو عبادة مخصوصة .

" تمهيد "
وقبل البدء في بيان المسألة ، أشير إلى قواعد كلية ، لا بد من التذكير بها :
أولاً : أنزل الله تعالى رسالته على نبيه ليبيّن لهم كيف يعبدوه ، فلا يحل لأحد أن يتقدم بين يدي الله ورسوله باختراع عبادة ، يتوسل بها إلى مرضاة الله كائناً من كان .
فإننا مأمورون بالاتباع لا بالابتداع ، والنصوص من الكتاب والسنة متواترة في تقرير ذلك .
ثانياً : والبدعة قسمان : بدعة حقيقية ، وبدعة إضافية .
فالأولى ، كأن يبتدع إنسان عبادةً ، يضاهي بها العبادات المشروعة ، فيخترع صلاةً في زمان معين ، بكيفية معينة ، لم يرد فيها نص صحيح ، كصلاة الرغائب ( أول جمعة من رجب ) وقد سبق ذكرها في بحث سابق .
والثانية ، البدعة الإضافية ، وهي أن يأتي إلى عبادة مشروعة ، من صلاة وصيام - مثلاً - فيخصص لها من عنده زماناً أو مكاناً أو عدداً أو هيئةً ، لم يرد فيها دليل على ذلك التخصيص .
كصيام أول خميس من رجب ، أو اختراع عدد معين من التسبيح والتهليل ، يعتقد أن له مزيّةً على غيره ، أو يقصد مكاناً مخصوصاً يصلي فيه ، يعتقد فضله على غيره من الأمكنة .
ثالثاً : لا يحل لأحد أن يحتج بفعل شخص ، فيقلده في عبادة ، سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فلو فُرِض أن صحابياً أو تابعياً أو إماماً من أئمة الدين انفرد بقول أو فعل ، مما يتقرب به إلى الله ، ولم يرد فيه دليل شرعي من السنة ، فإنه لا يخرج عن كونه بدعةً ، ولا يحل متابعته وتقليده ، مع التماس العذر له .
رابعاً : قد وردت أحاديث كثيرة وآثار عن السلف لا يصح إسنادها ، فلا يحل الاستدلال بها في إثبات عبادة من قول أو عمل .
خامساً : ومن سوّغ العمل بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال ، وضع له شروطاً لا بد من توفرها :
1 - أن لا يكون الحديث شديد الضعف .
2 - أن يكون العمل مندرجاً تحت أصل شرعي .
3 - أن لا يعتقد ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ومعنى هذه الشروط ، أن يكون العمل في أصله مشروعاً ، ثم يرد في فضله حديث ضعفه يسير ، مثال ذلك : صلاة الليل ، فقد ثبت في فضلها والتأكيد عليها أحاديث كثيرة ، فلو ورد حديث ينص على أن من صلى الليل كثر رزقه - مثلاً - وكان الحديث ضعيف الإسناد ، ليس بمنكر ولا موضوع ، فإن مثل هذا لا بأس في العمل به ، لأنه لا ضرر من ذلك ، فلم يخترع عبادة ، وإنما ذكر فيها فضل تكثير الرزق .
على أنه ينبغي أن لا يعتقد صحة الحديث ، بل يرجو أن يناله شيءٌ من ذلك  الفضل على سبيل الظن .
سادساً : لو ثبت تفضيل زمان أو مكان بأحاديث صحيحة ، فإن هذا لا يبيح اختراع عمل خاص
في ذاك الزمان والمكان .
فالأشهر الحرم لها فضل على غيرها ، لكن لا يحل تخصيصها بزيادة عمل ، من صلاة وصيام ، وغير ذلك .
وقد تقدم بيانه في البحث السابق في رجب .
وتخصيص الدعاء تحت ميزاب الكعبة - مثلاً - لا دليل عليه .
وتحرّي الصلاة في المساجد السبعة في المدينة النبوية ، لا دليل عليه .

" فضل نصف شعبان "
وردت أحاديث عدة في فضل النصف من شعبان ، منها :
1 - < يطّلع الله تبارك وتعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان ، فيغفر لجميع خلقه ، إلا لمشرك أو مشاحن > .
2 - < إن الله ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا ، فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب > .
( كلب ) قبيلة مشهورة عددها كبير .
قلت : ووردت نحو هذين الحديثين أحاديث أخرى بنحوهما .
وقد اختلف فيها ، فضعّفها الأكثرون ، كما قال ابن رجب في لطائف المعارف .
وسبقه إلى ذلك أئمة ، والكلام في ذلك يطول .

" الاحتفال بيوم النصف وليلته "
ولو فرضنا - جدلاً - صحة الأحاديث الواردة في فضل النصف ، فإن هذا لا يبيح الاحتفال به ، بتخصيص صوم أو صلاة أو دعاء أو ذكر .
لأن في ذلك افتئاتاً على الشريعة ، وتقديماً بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، واستدراكاً على سنته وهديه .
وما ورد في تخصيص عبادة يوم النصف من شعبان وليلته ، فهو مكذوب .
فإن قيل : قد احتفل بعض التابعين بتلك الليلة ، من أهل الشام !
قلنا : هل خفي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه من الخلفاء الراشدين فضل العمل في تلك الليلة وفي يومها ؟
ولو كان خيراً ما سبقهم إليه أحد من الخلق ، لا أهل الشام ولا غيرهم .
وإليك طرفاً مما كتبه الشيخ علي محفوظ ، رحمه الله ، عضو جماعة كبار العلماء بالأزهر ، في كتابه الماتع " الإبداع في مضار الابتداع " ، قال "ومن البدع الفاشية في الناس احتفال المسلمين في المساجد بإحياء ليلة النصف من شعبان بالصلاة والدعاء عقب صلاة المغرب ، يقرؤونه بأصوات مرتفعة بتلقين الإمام ، فإن إحياءها بذلك على الهيئة المعروفة لم يكن في عهد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ، ولا في عهد الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين .
وإنما اشتهر عن خالد بن معدان ومكحول الشامي من التابعين .." إلى أن قال " وجملة القول أن كل الأحاديث الواردة في ليلة النصف من شعبان ، دائر أمرها بين الوضع والضعف وعدم الصحة ..
وأما الصلاة المخصوصة التي يفعلها بعض الناس في هذه الليلة ، فقد ذُكرَ حديثها في الإحياء ، وقوت القلوب ، ولكن قد صرّح جماعة من الحفاظ بأنه موضوع .
قال الحافظ ابن الجزري ( وأما صلاة الرغائب - أول خميس من رجب - وصلاة ليلة النصف من شعبان .. فلا تصح ، وسندها موضوع باطل ) .
وقال الحافظ العراقي ( حديث صلاة ليلة النصف موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذب عليه ) .. " .
ثم نقل الشيخ علي محفوظ نحو ذلك عن النووي ، والطرطوشي ، وأبي شامة .
ثم ذكر الشيخ ما يفعله كثير من العوام من المسارعة في تلك الليلة إلى المساجد قبيل الغروب والدعاء بقولهم ( ياذا المنّ ولا يمنّ عليه.. ) الخ ، وبقولهم ( إلهي بالتجلي الأعظم في ليلة النصف من شهر شعبان المعظم ..) الخ .
ثم ذكر الشيخ ما يعتقده كثير من الناس أن ليلة النصف هي المعنيّة في قوله تعالى { إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم } ، وقال : هي ليلة القدر في رمضان ، ونقل هذا عن ابن كثير وابن العربي الذي قال: ( جمهور العلماء على أنها ليلة القدر ) .
انتهى نقله باختصار من كتاب الإبداع للشيخ علي محفوظ [ ص 286 - 291 ] .
قلت : حسبي ما ذكرته في هذا المختصر ، ولا يحتمل المقام نقل تفصيل الكلام ، والرد على شبهات المخالفين  ، والله تعالى أعلم .

وكتب سمير بن خليل المالكي
مكة المكرمة



الأربعاء، 15 يونيو 2016

الإختيار لليسر في الاعتمار

" الاختيار لليُسر في الاعتمار "
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله .
أما بعد ، فإن من أخص خصائص الشريعة الإسلامية ، اليسر في أحكامها ، ورفع الحرج عن أهلها ، وقد تواترت النصوص في تقرير ذلك كما في قوله تعالى { وما جعل عليكم في الدين من حرج } ، وقوله { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } ، وقوله { يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً } .
وورد في السنة تأكيده ، كما في الصحيح "إن الدين يُسر ، ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه " .
و" خذوا من العمل ما تطيقون .. " .
وفي حديث عائشة " إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيدَع العمل ، وهو يحب أن يعمل به ، خشية أن يعمل به الناس ، فيفرض عليهم ".
وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم أعمالاً لم يعملها ، وترك الأمر بها ، شفقة على الأمة ، أن يتابعوه عليها ، فتفرض عليهم ، أو يشق عليهم تركها ، حتى لو لم تفرض ، فيكلَفوا ما لا طاقة لهم بالمداومة عليه ، ولا بتركه ، فيقعوا في الحرج .
كقوله " لولا أن أشقّ على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء " .
وكقوله ، لما دخل الكعبة " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما دخلتها ، إني أخاف أن أكون قد شققت على أمتي " . رواه أبو داود .
وكل أحكام الشريعة ، عبادات ومعاملات ، مبناها على الرفق والتيسير ، ورفع المشقة والتعسير ، والأمثلة في ذلك تجلّ عن الحصر.
" تكرار العمرة "
ومن صور التيسير في العمرة ، أنها لا تجب إلا مرة واحدة في العمر ، على المستطيع ، وقد اختلف في وجوبها أيضاً .
ومن أهل العلم من لم يستحب تكرارها في العام أكثر من مرة ، كالمالكية ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر أكثر من عمرة في العام الواحد .
ومنهم من قال : في كل شهر مرة .
ومنهم من رأى أنه يكررها متى شاء ، ولو في اليوم أكثر من مرة .
واحتجّوا بحديث " العمرة إلى العمرة كفارةٌ لما بينهما " . متفق عليه .
ولم يحدّ في أدائها زمان مخصوص ، فتصح في كل وقت .
إلا ما استثناه بعض أهل العلم من أيام ، فقالوا لا يفعلها الحاج في خمسة أيام : يوم عرفة ، ويوم النحر ، وأيام التشريق الثلاثة .
أما غير الحاج فله فعلها مطلقاً .

" العمرة المكية "
ومما اختلف فيه أهل العلم ، الاعتمار من مكة خارجاً منها ، بمعنى : أن يخرج من مكة إلى الحلّ ( إما التنعيم وإما غيرها ) ثم يدخل مكة ويطوف ويسعى .
فالجمهور على أن ذلك مشروع ، واحتجوا عليه بعمرة عائشة ، بعد قضائها الحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث أمر أخاها عبد الرحمن أن يذهب بها إلى الحلّ فتعتمر منه .
وذهب ابن عباس وطاووس وعطاء إلى أنها غير مشروعة ، وانتصر لهذا القول ابن تيمية . [مجموع الفتاوى 26/ 264 ] .
لأنه لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ، لا بعد حجة الوداع ، ولا قبل ذلك ، فإن عمراتهم كلها كانت وهم داخلون إلى مكة .
وقالوا : إن طواف المكي بالبيت هو الركن الأساس للعمرة ، فخروجه من مكة ليعود إليها للطواف سعيٌ في لا شيء ، ومشقة لا فائدة فيها ، وبين أن يخرجوا عدة أميال إلى الحل ويعودوا ، يمكنهم الطواف مرات عديدة .
وأجابوا عن عمرة عائشة من التنعيم ، بأنها هي التي ألحّت على الرسول صلى الله عليه وسلم في فعلها ، لأنها قدمت إلى مكة متمتعة ، فلما وصلت قرب مكة ( في سَرِف ) حاضت ، فلم تقدر على فعل العمرة ، فأدخلت عليها الحج وصارت قارنة ، فلما قضت الحج أرادت أن تأتي بعمرة مفردة ، فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أنها قد فرغت من حجها وعمرتها ، فألحّت عليه ، فأذن لها فيها .
قالوا : فلولا إصرارها عليها لما أَذِن لها بفعلها ، ولو كانت مستحبة لفعلها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ولرغّب في فعلها.
وقالوا : هذا عبد الرحمن أخوها ، لم يفعلها ، وإنما اكتفى بمرافقتها .
وأجاب الجمهور بأن إذن النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة في فعلها دليل صريح على مشروعيتها [ الفتح 3/ 606 ] ، حتى لو قيل إنه أذن لها تطييباً لخاطرها ، وإنها كانت إذا هويت الشيء تابعها عليه [رواه مسلم ] .
فإن ذلك لا ينفي مشروعيتها ، ولو كانت مكروهة لما أذن لها فيها .
كل ما في الأمر أنه صلى الله عليه وسلم كان رفيقاً بها ، وبسائر الأمّة ، فما أراد أن تتكلّف مشقة فعلها ، وأخبرها بأنها قد حصل لها العمرة مقرونةً بالحج .
فلما رأى عزمها على فعل عمرة مفردة ، كما فعلت صويحباتها ، أذن لها فيها.
فهو إِذْنُ تشريع وسنة ، لا يصح أن يُقال فيه غير ذلك ، ويؤيده قوله لها "إن لك من الأجر على قدر نصَبك ونفقتك" .
رواه البخاري ومسلم والحاكم ، واللفظ له .
ومثل هذا لا يقال إلا في القربات المشروعة .
وأجاب الجمهور كذلك بتواتر فعل العمرة المكية من زمن الصحابة والتابعين ومن بعدهم .
وقد فعلها من الصحابة بعد زمن النبوة ، صاحبة القصة ، عائشة ، كما في رواية مسلم قال أبو الزبير " وكانت عائشة إذا حجت صنعت كما صنعت مع نبي الله صلى الله عليه وسلم " .
واعتمر أنس وابن الزبير وابن عمر وجابر وأم الدرداء وغيرهم من مكة . البيهقي [4/344] ومصنّف عبدالرزاق [5/ 127].
وأجاب الجمهور عن فتوى ابن عباس في المنع منها ، بما رواه ابن أبي شيبة [ 4 / 87 ] عنه أنه قال " لا يضركم يا أهل مكة أن لا تعتمروا ، فإن أبيتم ،  فاجعلوا بينكم وبين الحرم بطن الوادي " .
ومعناه ، كما قال عطاء : أن يجعلوا بينهم وبين مكة بطن واد من الحل .
ثم نقول مع ذلك : إن تكرار العمرة من مكة ، على نحو ما نراه اليوم من كثير من الناس ، ابتغاءً للأجر ، فيه مشقة عظيمة ، على أنفسهم ، وتضييق على إخوانهم المعتمرين الذين قصدوا مكة من ديار بعيدة ، فيزاحمهم المكثرون من العمرة المكية ، فلو أنهم اعتاضوا عنها وعن كثرة الطواف، بغيرها من أعمال البر ، كالصلاة والقراءة والذكر ، في البيوت ، أو في المساجد القريبة ، لكان أولى .
" عمرة رمضان "
واختلف في أفضل أوقات العمرة ، والأكثر على القول بأن عمرة رمضان أفضل ، وأنها تعدل حجة .
لما ورد في الصحيحين من حديث ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من حجته قال لأم سنان الأنصارية "ما منعك من الحج " ؟
فاعتذرت له بأن زوجها خرج للحج مع ابنه على ناضح ، وترك ناضحاً للسقيا .
فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم " فإذا كان رمضان اعتمري فيه فإن عمرة في رمضان تعدل حجة (أو قال حجة معي ) " .
والحديث وقع فيه اختلاف في قوله (حجة ) أو ( حجة معي ) .
ووقع اختلاف في اسم المرأة ، فقيل : أم سنان ، وقيل أم معقل ، وقيل أم سليم ..
ثم وقع الخلاف ، أيضاً ، في دلالة الحديث ، فقيل إنه خاص بتلك المرأة ، لأنها أرادت الحج مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يتهيّأ لها مرادها ، فأرشدها إلى ما يعدل أجر حجة ، إما مطلقاً ، وإما معه .
وممن اختار هذا القول سعيد بن جبير . [ الفتح 3 / 605 ] .
ويؤيده رواية أبي داود (و سمى المرأة أم معقل ) وفيه قال " فأما إذا فاتتك هذه الحجة معنا، فاعتمري في رمضان ، فإنها كحجة ".
وجاء في آخر الرواية أنها قالت " الحج حجة ، والعمرة عمرة ، وقد قال هذا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما أدري ألي خاصة " ؟
وقد انتصر لهذا القول ابن تيمية وجعل لثواب العمرة في رمضان درجات ، حسب فهمي لمراده .
أعلاها : أن عمرة رمضان تعدل حجةً مع النبي صلى الله عليه وسلم ، لتلك المرأة ، ولمن كان مثلها ، ممن أراد الحج مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم منعه منها عارضٌ . وهذا خاص بزمن النبوة بالشرط المذكور .
ودون ذلك : من أراد الحج ، بعد زمن النبوة ، فحبسه عذر ، فاعتمر في رمضان التالي ، فهذا له أجر حجة فقط .
ودون ذلك : من أتى بعمرة في رمضان ، من آحاد الناس ، فهذا قد يحصل له أجر حجة ، إن جاء بها محرماً من الميقات ، فإنه قد اجتمع له فضل الزمان - في رمضان - وشرف المكان -في المسجد الحرام - فلا يبعد أن يناله مثل ذلك الأجر العظيم .
وأما من اعتمر في رمضان من مكة ، فهذا يبعد أن يحصل له مثل أجر من أنشأ لها سفراً . مجموع الفتاوى [ 26 / 292 ] .
ولابن القيم كلام ، بنحو هذا ، وقد اختار أن أفضل وقت للعمرة ، ما اختاره الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو العمرة في ذي القعدة ، وقال : وهذا مما نستخير الله فيه ، فمن كان عنده فضل علم فليرشد إليه .
تهذيب السنن [7/ 36] وزاد المعاد [2 /90 ]. وذكر ابن القيم وغيره أن عمراته الأربع  كلها قد وقعت في ذي القعدة .
1- عمرة الحديبية ، في العام السادس للهجرة ، وقد حسبت له مع كونه صُدّ عنها .
2- وعمرة القضية ( أو القضاء ) ، وهي التي قاضى قريشاً ( أي صالحهم ) عليها ، وكانت في العام السابع .
3- وعمرة الجعرانة ، وكانت في العام الثامن بعد فتح مكة ، وبعد عودته من حصار الطائف ، ودخل من جهة جعرانة ليلاً .
4- والعمرة التي أتى بها مقرونة مع حجته في السنة العاشرة .
قال سمير : فضل الله واسع ، فلا يبعد أن يحصل للمعتمر في رمضان مثل هذا الأجر العظيم ، لكن هذا لا يقتضي ترك الاعتمار في الأشهر الأخرى ، خاصةً في ذي القعدة ، تأسياً بفعل النبي صلى الله عليه وسلم .
ثم إن هناك أعمالاً كثيرة ، ورد فيها ثواب عظيم ،
وليس فيها مثل مشقة العمرة في رمضان ، ولا قريب منها ، كذكر الله ، والصلاة ، والصيام ، والصدقة ، فلم يحصر الثواب والمغفرة في عمل واحد .
خاصةً النساء والضعفة والمرضى ، فإن هؤلاء يستحب لهم اختيار العمل اليسير ، البعيد عن الزحام والعراك .
رأينا من يكثر من الاعتمار في رمضان في هذا الزمان ، رغبة في الأجر العظيم ، لكننا رأيناهم يتجشمون المشاق العظام ، ويحصل لهم من العنت والحرج الشديد ، وربما وقع لهم أذىً في أنفسهم وأزواجهم وأولادهم وأموالهم .
والله تعالى يقول { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً } .
ولما صاح بعض الصحابة بالذكر قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم مشفقاً عليهم " اربعوا على أنفسكم " .
أي : ارفقوا ولا تجهدوا أنفسكم .
والمشقة متيقنة في عمرة رمضان من كل جهة ، أولها وصول المعتمر إلى قرب ساحات المسجد الحرام ، وما يلقاه من عناء الزحام ، وربما انتظر وقتاً طويلاً حتى يتسنى له الوصول إلى الساحات ، ثم تبدأ رحلة المعاناة للدخول من أبواب المسجد ، ولا يزال يتنقل من عناء إلى عناء ، حتى ينتهي من أداء عمرته ، ولا يكاد يسلم من مدافعة الناس ، وربما أدى إلى شجار وسباب وعراك ، ومن كان معه بعض أهله فعناؤه متحقق ، وإيذاؤه متيقن .
ولا تسلْ هناك عن غفلة أكثر القلوب عن الخشوع والسكينة ، وعن ضياع أكثر السنن ، في معمعة الزحام الشديد ، وما تورثه تلك المدافعات ، من هنا وهناك ، من شحناء وبغضاء ، وسباب وقتال .
فهل بمثل هذا تتحصل الحسنات ، وتنال أرفع الدرجات ؟
والخوف من أن ينعكس المقصود ، ولا يكون حظ المعتمر من عمله إلا التعب والنصب ، وضياع الثواب والأجر .
وقد ورد في الحديث ما يشبه هذا ، ويمكن أن يقاس عليه " رُِبّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر والتعب " . رواه ابن ماجه .
والمقصود أن يحتاط المسلم لعبادته ، فيختار الوقت الأوفق لأدائها على الوجه الأكمل ، ولو أداها في الوقت المفضول .
( لأن الفضيلة المتعلقة بذات العبادة ، أولى من الفضيلة المتعلقة بمكانها أو زمانها ) .
فإذا قدّر لك أن تعتمر وحدك ، أو مع أهلك ، في وقت لا يكون فيه مثل هذا الزحام والعراك ، من أيام السنة ، ولو كان أجرها أقل من فعلها في رمضان ، فيكون أخشع لقلبك ، وأدعى لأدائها على وفق السنة ، وأبعد من الوقوع في إثم المدافعة والمغالبة وما يتبعها ، فإن ذلك أولى وأحرى ، بل ربما تتحصل على أجر وثواب أعلى .
ولهذا نظائر كثيرة في العبادات .
فقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم الوقت المفضول لصلاة العشاء ، عن الوقت الأفضل ، لئلا يشق على أمته .
واختار الإبراد لصلاة الظهر في الحر الشديد رفعاً للحرج عنهم .
وقد حصل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم من التيسير على الناس ، خاصة النساء والضعفة ، الشيء الكثير ، فاختار لهم النفر من مزدلفة ليلاً ، مع تفويت الأفضل وهو المبيت إلى الإسفار ، ورموا بالليل ليلة النحر ، مع أن الأفضل تأخيره إلى الضحى.
وقد أفتى ابن عمر لزوجته أن تؤخر رمي الجمار إلى الليل ، مع أن السنة رميها بعد الزوال .
والكلام في هذا يطول ، والله تعالى أعلم .

وكتب سمير بن خليل المالكي
مكة المكرمة

الجمعة ٥/ رمضان / ١٤٣٧هـ

المختصر في قنوت الوتر

المختصر في قنوت الوتر
الحمدلله ، والصلاة والسلام على رسول الله .
أما بعد ، فهذه نبذة يسيرة عن قنوت الوتر في قيام رمضان ، وبيان خطأ كثير من القرّاء فيه ، ودعاء الختم المشهور - الذي يصر بعض أئمة المساجد على المداومة على فعله في كل عام ، خاصةً أئمة الحرمين ، أصلحهم الله ووفقهم لما يحبه ويرضاه .
وكنت قد كتبت في ذلك مقالاً بعنوان " التبيان في بعض بدع القنوت في رمضان " ، وسأختصر هنا بعض ما ذكرته فيه ، مع زيادات يسيرة .
" العبادات توقيفية "
معلوم أنه لا يصح التعبد لله إلا بما شرع ، وأن الحجة إنما تقوم على العباد بالوحي المحكم من الكتاب والسنة ، وأن أقوال الناس وأفعالهم - مهما بلغوا من العلم والفضل - لا يحتج بها ، مالم يثبت فيه إجماع ، فإنه حينئذٍ يكون حجةً وفصلاً للنزاع .
مع التنبيه على اختصاص الصحابة رضي الله عنهم بمزية فضل وعلم ، لا يَشْرَكهم فيه أحد من الناس .
والاحتجاج بمذهب الصحابي - فيما لا يخالف فيه سنة ، أو صحابياً آخر - أصل معتبر من أصول المذاهب الفقهية .
" القنوت في الوتر "
اختلف السلف ، من الصحابة والأئمة بعدهم ، في القنوت في الوتر .
فمنهم من رأى استحباب القنوت في الوتر مطلقاً ، ومنهم من منع القنوت في الوتر مطلقاً ، ومنهم من استحبه في زمن مخصوص ، وهو النصف الثاني من رمضان .
واحتج الأولون ، وهم الحنفية ، والحنابلة (في رواية) بالأحاديث المطلقة ، ومنها :
1- حديث الحسن بن علي المشهور الذي ذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه كلمات يقولهنّ في قنوت الوتر "اللهم اهدني فيمن هديت .. " .
لكن اختلف في لفظ الحديث ، فبعضهم أورده بلفظ ليس فيه ذكر القنوت ولا الوتر .
ورجّحه ابن خزيمة وابن حبان .
وعلى فرض ثبوت اللفظ الأول - بذكر الوتر والقنوت - فليس فيه حجة لمن يقول بالقنوت المطلق في ليالي السنة .
2 - حديث أُبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في الوتر قبل الركوع .
رواه أبو داود وضعّفه .
وذكر المحققون من الأئمة أنه لم يثبت في قنوت الوتر حديث مرفوع .
حكاه الحافظ في التلخيص [ 2 / 18 ] عن الإمام أحمد .
ووافقه ابن خزيمة في صحيحه [ 2 / 151] .
واحتج من رأى عدم القنوت في الوتر مطلقاً ، وهو إحدى الروايتين عن مالك ، كما في المنتقى للباجي [ 1 / 110 ] ، بعدم ثبوت الأحاديث فيه .
والمذهب الثالث - وهو الوسط بين الطرفين - قالوا : لم يصحّ في قنوت الوتر حديث .
والروايات الكثيرة المشهورة ، في الصحاح والسنن ، عن عدد من الصحابة ، في وصف قيام النبي صلى الله عليه وسلم ووتره ، ليس فيها ذكر للقنوت ، لا في رمضان ولا في غيره .
ثم نظرنا في الآثار ، فرأيناها مختلفة ، ورأينا أصح ما ورد فيها أثر عمر حين جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد ، وكانوا قبل ذلك يصلون أوزاعاً ، وكان يؤمّهم أُبي بن كعب ، ولا يقنت لهم إلا في النصف الثاني .
رواه أبو داود ، وذكر أن هذا يدل على ضعف حديث أبي بن كعب السابق في قنوت النبي صلى الله عليه وسلم .
ورواه المروزي في "قيام الليل " باب : ترك القنوت في الوتر إلا في النصف الآخر من رمضان .
وهو مشهور مذهب الشافعي ، ورواية عن مالك وأحمد .
واحتج الأئمة بأثر عمر لموافقة الصحابة له ، حتى قال ابن قدامة في المغني إنه كالإجماع .
ويؤيده ما ذكره المروزي من آثار ، عن علي وابن عمر وغيرهما ، أنهم كانوا لا يقنتون إلا في النصف الآخر من رمضان .
انظر الاستذكار [ 5 / 166 ] ، ومسائل أبي داود [66] ، والمجموع شرح المهذب [4 / 15] ، ومصنف ابن أبي شيبة [2/98].
لكن حكى المرداوي في الإنصاف [ 2 / 166 ] عن الإمام أحمد أنه رجع عن القول به ، ورأى أن القنوت في كل السنة ، كقول الحنفية .
وحكى النووي في المجموع عن الشافعية كقول الحنفية أيضاً .
قال سمير : الذي يترجح عندي القول بالقنوت في النصف الثاني من رمضان .
"دعاء القنوت"
1 - حديث الحسن بن علي " اللهم اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتولني فيمن توليت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقني شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، وإنه لا يَذِل من واليت ، تباركت ربنا وتعاليت " . رواه أصحاب السنن .
2 - دعاء عمر في قنوت رمضان ، وفيه ألفاظ ،
منها : ما رواه ابن خزيمة [ 1100 ] عن عبد الرحمن القاري قال " .. وكانوا يلعنون الكفرة في النصف : اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ، ويكَذّبون رسلك ، ولا يؤمنون بوعدك ، وخالف بين كلمتهم ، وألقِ في قلوبهم الرعب ، وألقِ عليهم رجزك إله الحق " .. ثم يصلي على النبي ويدعو للمسلمين بما استطاع من خير ، ثم يستغفر للمؤمنين ، قال " اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد ، وإليك نسعى ونحفِد ، ونرجو رحمتك ، ونخاف عذابك الجِدّ ، إن عذابك لمن عاديت ملحِق " .
وورد عند عبدالرزاق في المصنف [4969]
والبيهقي [2 / 210 ] بلفظ " اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات ، والمسلمين والمسلمات ، وألّف  بين قلوبهم ، وأصلح ذات بينهم ، وانصرهم على عدوك وعدوهم ، اللهم العن كفرة أهل الكتاب ، الذين يكذبون رسلك ، ويقاتلون أولياءك ، اللهم خالف بين كلمتهم ، وزلزل أقدامهم ، وأنزل بهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين .
بسم الله الرحمن الرحيم ، اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ، ونثني عليك ، ولا نكفرك ، ونخلع ونترك من يفجرك .
بسم الله الرحمن الرحيم ، اللهم إياك نعبد ، ولك نصلي ونسجد ، وإليك نسعى ونحفِد ، نرجو رحمتك ، ونخاف عذابك ، إن عذابك بالكفار ملحِق " .
قال سمير : قوله هنا " إليك نسعى " أي : لك نعمل ، لأن السعي هو العمل .
وقوله " نحفد " بكسر الفاء ، أي : إياك نخدم .
والحفد معناه الخدمة .
وحفَدَة الرجل : خَدَمُه وأعوانه .
وقوله " عذابك الجِدّ " أي : الحَقّ ، من قولهم : جَدّ فلان في هذا الأمر ، إذا صحّح عزمه فيه .
وقوله " ملحِق " : معناه : أنت تلحِق العذاب بالكفار . أي توقعه عليهم .
انظر تهذيب الآثار للطبري [ 6 / 241 ] .
"الإطالة في القنوت"
ومما سبق إيراده من أدعية للقنوت ، تعلم مقداره ، وأنه لا يطوّل فيه .
فقنوت الحسن ، قد يستغرق نحو دقيقة ، وأما قنوت عمر فهو أطول من ذلك ، ولا أظنه يتجاوز الدقيقتين .
وقد اختار النووي قنوت الحسن ، ثم ذكر أنه لو قنت بدلاً عنه بقنوت عمر فحسن .
ثم قال "وأما الجمع بين القنوتين ، فيكون في حال الانفراد ، أو أن يكون إمام قوم محصورين في العدد ، بحيث يرضون بالتطويل " .
قال سمير : تأمّل - رحمك الله - كيف جعل الجمع بين القنوتين تطويلاً ، وأجازه حال الانفراد ، أو إذا قُدّر أن يصلي الإمام بعدد محصور يرضون مثل هذه الإطالة ، التي لا تكاد تتجاوز الثلاث دقائق .
هذا مع كون القنوتين مأثورين عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن عمر ، فكيف بما يفعله كثير من أئمة هذا الزمان من إطالة ممجوجة ، ودعاء مسجوع ، ونياحة على الأموات ، استجلاباً للبكاء ، وتهييجاً للأحزان .
حتى غدا القنوت في المساجد ساحةً للمباهاة وشبكةً لاصطياد العوام .
وأكبر مشهد لمثل هذا تراه - للأسف - في الحرمين ، مع كثرة من ينكره من العلماء وطلبة العلم ، بل حتى العوام قد ضجِروا من مشقة رفع الأيدي وطول القيام .
ومن استقرأ ، أو استمع ، إلى فتاوى ابن باز والعثيمين والفوزان وغيرهم ، في التصريح بالإنكار لتلك المخالفات المتكررة في كل عام، من التطويل ، والصراخ والعويل ، وغيرها من الأباطيل ، ولا تجد في المقابل إلا عناداً وإصراراً واستكباراً ، فالله المستعان !
لقد أسمعت لو ناديت حياً                  ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو ناراً نفخت بها أضاءت                 ولكن أنت تنفخ في رمادِ
" دعاء ختم القرآن "
ومما استحدث أيضاً في قيام رمضان ، دعاء ختم القرآن داخل الصلاة ، وغدا شعيرةً يتباهى بها بعض القرّاء ، ويتداعى لها الناس ، خاصة في الحرمين ، ويضاهى بها الأعياد ، ويحصل فيها من الزحام الشديد والمشقة المفرطة والأذى المتحقق ، ما الله به عليم ، ويتكرر المشهد كل عام ، هذا مع علم المحدِثين لهذا الأمر أنه لم يثبت فيه نص صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أصحابه ، في دعاء الختم في الصلاة ، لا في قيام رمضان ولا في غيره ، فعلامَ الإصرار على فعله كل عام ، كأنه فريضة محكمة أو سنة مؤكدة ؟
وغاية ما هناك آثار لا تقوم بها حجة .
وأعلاها ما ورد عن أنس رضي الله عنه " أنه كان إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا " .
رواه الدارمي في السنن [2 / 469 ] .
وهذا، أولاً : فعل صحابي انفرد به .
ثانياً : فعله خارج الصلاة .
ثالثاً : لم يجمع له الناس ، حتى صار عيداً يضاهي الأعياد !
رابعاً : ولا اخترع له حزباً يداوم عليه .
فأين هذا الأثر ، مما يفعله قرّاء الحرمين وغيرهم من بدع مركّبة ليلة الختم ؟
1 - فتخصيص دعاء لأجل الختم ، بدعة .
2 - وفعله داخل الصلاة بدعة أخرى .
لأنه قد يكون العمل مشروعاً مطلقاً ، لكنه لا يشرع داخل الصلاة .
ودعاء الختم لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا داخل الصلاة ولا خارجها، إلا إذا قيل إنه لم يختم القرآن في حياته ولا مرة !
فإذا علم يقيناً أنه صلى الله عليه وسلم قد ختمه مرات لا تُحصى ، وختمه الخلفاء الراشدون وعدد غفير من الصحابة ، ثم لم ينقل عنهم نص واحد صحيح في تخصيص دعاء ولا ذكر يقال لأجل الختم ، لا داخل الصلاة ولا خارجها ، بل تتابعوا على تركه وإغفاله، علمنا يقيناً أن ذلك الترك سنة محكمة ، وأن من فعله فقد أحدث  في الدين ، وكان فعله مردوداً عليه كائناً من كان .
3 - فإذا أضيف إلى هذا ، تخصيص ورد مرتّب ، يقال في كل ختم ، يضاهي الأدعية والأوراد الشرعية ، فهذا مُحْدث آخر ، يضاف إلى سابقيه .
4- ثم يضاف إلى ذلك كله ما اشتمل عليه دعاء الختم من مسائل ، لا تمت إلى الدعاء بصلة ، بل هي أشبه بالمواعظ والقصص ، فهذا مُحدَث رابع .
5 - ويزاد عليه أيضاً ، ذلك التطويل الشاق الممل ، وما يصاحبه عادةً من سجع وصياح وعويل ، مع التنغيم والتطريب في الدعاء، فهذه محدثات وبدع مركبة ، لا يصلح السكوت عليها ، بل يتعيّن إنكارها .
وربما احتج علينا بعض الناس بقول التابعي الكبير مجاهد " الرحمة تنزل عند ختم القرآن " .
وهذا لا حجة فيه على تركيب تلك المحدثات ، لأن الرحمة والسكينة تتنزّل عند قراءة القرآن ومدارسته .
وهذا ثابت في الصحيح " وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله ، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم ، إلا نزلت عليهم السكينة ، وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن عنده . رواه مسلم .
وفي الصحيح قصة أُسيد بن حضير ، حين قرأ سورة بالليل ، وجعل فرسه ينفر .. وفيها قال النبي صلى الله عليه وسلم " تلك السكينة تنزّلت للقرآن " . متفق عليه .
وربما احتجوا بفعل الإمام أحمد ، في دعاء الختم في قيام رمضان ، وقوله " رأيت أهل مكة يفعلونه ، وكان سفيان بن عيينة يفعله معهم بمكة " . المغني [ 2 / 608 ] .
فهذا من أوهى ما يُحتَجّ به في دين الله .
ففعل أهل مكة - ولو تابعهم عليه سفيان وأحمد وغيرهما - لا يستدل به في شيء ، وهذا مما لا ينبغي الخلاف فيه .
ولو فتحنا هذا الباب في الاستدلال بأفعال وأقوال العلماء الأخيار  ، ومذاهب الأمصار ، لعمّت البدع ، ولأُدخل في الشريعة ما ليس منها ، ولاندرست أكثر معالمها ، إذ ما من إمام ، ولا أهل بلد ، إلا لهم مفردات وغرائب جانبوا فيها الصواب .
بل قد ورد عن بعض الصحابة مسائل ، أنكرها عليهم الأئمة ، ويمكن أن تفرد في مجلد .
وما أحدثه بعض الأئمة من قيام ليلة النصف من شعبان ، مع ورود أحاديث فيها ، من طرق ضعيفة عديدة ، وفعل بعض التابعين، كخالد بن معدان ، ومكحول ، واشتهاره في أهل الشام ، ولم يمنعنا ذلك من إعلان الإنكار على ما أُحدث فيها ، وهو مما يوافقنا عليه قرّاء الحرمين .
ويقال هذا أيضاً في كل ما أحدثه الناس ، وإن قال به بعض الأئمة ، واشتهر العمل به في الأمصار ، كصلاة الرغائب ، في رجب، والاحتفال بليلة الإسراء ( التي يُزعم أنها في رجب ) ، وبليلة المولد في ربيع .. الخ .
فلم يمنع ذلك من إعلان الإنكار لها ، وتبديعها ، عملاً بالأصول الشرعية في سنة الفعل والترك . قال أبو شامة عن صلاة النصف من شعبان "وقد جعلها جهلة أئمة المساجد مع صلاة الرغائب ونحوها من الصلوات ، شبكةً لجمع العوام ، وطلبٍ لرئاسة التقدم ". الباعث [56].
قال سمير : ويقال مثله في دعاء الختم .
هذا وقد ورد إنكار دعاء الختم عن الإمام مالك ، حيث قال "ليس ختم القرآن في رمضان بسنة للقيام " . المدونة [ 1 / 288 ] .
وقال أيضاً " ما سمعت أنه يدعو عند ختم القرآن ، وما هو من عمل الناس " .
المدخل لابن الحاج [ 2 / 299 ] .
ثم إننا نقول للمتعصبين لمذهب الإمام أحمد في الختم ، أتوافقونه في كل مذهبه ، أم تخالفونه في البعض ؟
أليس من مذهبه - رحمه الله - الترخيص في التعريف في الأمصار عشية عرفة ، وهو الاجتماع في المساجد بعد العصر ، للذكر والدعاء .
واحتج الإمام أحمد بفعل ابن عباس وغيره .
وأنكره الأئمة ، كمالك ، لعدم ثبوته في السنة وعمل الصحابة ، وقال " ليس هذا من أمر الناس ، وإنما مفاتيح هذه الأشياء من البدع " . الباعث [ 44 ] .
وقد بدّع التعريف كثير من أهل العلم ، ومنهم المفتي السابق ابن إبراهيم - رحمه الله - وتابعه عليه الشيخ البراك .
ومن مشهور مذهب أحمد جواز القراءة عند القبور ، واحتج على جوازها بما ورد عن ابن عمر في ذلك .
وخالفه كثير من علماء بلاد الحرمين ، وصرّحوا ببدعيتها .
واستمع لكلام الشيخ ابن باز ، رحمه الله ، حيث ذكر أن الواجب عرض ما تنازع فيه الناس على الكتاب والسنة وما أجمع عليه أهل العلم .
ثم ذكر أن ابن عمر له اجتهادات خالف فيها السنة .
ثم قال : إن الأئمة السابقين ، كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم ، لهم المنزلة العظيمة عندنا وعند غيرنا من أهل العلم ، ولكن لا يلزم من ذلك أن نوافقهم فيما أخطأوا فيه .
وللإمام أحمد مذهب فيما لو حال دون رؤية الهلال غيم أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان ، فاختار صيامه تبعاً لمذهب ابن عمر .
وخالفه أكثر العلماء المعاصرين في بلادنا .
ولو ذهبنا نتتبع مثل تلك المسائل ، لطال بنا المقام .
وحسبنا ما أوردناه هنا ، والله تعالى أعلم .

وكتب سمير بن خليل المالكي
مكة المكرمة

الثلاثاء ٢/ رمضان / ١٤٣٧هـ