"الاحتفال بالنصف من شعبان "
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا
محمد وعلى آله وصحبه ومن استن بسنته واهتدى بهداه .
أما بعد ، فهذا بحث مختصر في حكم
الاحتفال بيوم النصف من شعبان وليلته ، بذكر أو دعاء أو عبادة مخصوصة .
" تمهيد "
وقبل البدء في بيان المسألة ، أشير إلى
قواعد كلية ، لا بد من التذكير بها :
أولاً : أنزل الله تعالى رسالته على
نبيه ليبيّن لهم كيف يعبدوه ، فلا يحل لأحد أن يتقدم بين يدي الله ورسوله باختراع
عبادة ، يتوسل بها إلى مرضاة الله كائناً من كان .
فإننا مأمورون بالاتباع لا بالابتداع ،
والنصوص من الكتاب والسنة متواترة في تقرير ذلك .
ثانياً : والبدعة قسمان : بدعة حقيقية
، وبدعة إضافية .
فالأولى ، كأن يبتدع إنسان عبادةً ،
يضاهي بها العبادات المشروعة ، فيخترع صلاةً في زمان معين ، بكيفية معينة ، لم يرد
فيها نص صحيح ، كصلاة الرغائب ( أول جمعة من رجب ) وقد سبق ذكرها في بحث سابق .
والثانية ، البدعة الإضافية ، وهي أن
يأتي إلى عبادة مشروعة ، من صلاة وصيام - مثلاً - فيخصص لها من عنده زماناً أو
مكاناً أو عدداً أو هيئةً ، لم يرد فيها دليل على ذلك التخصيص .
كصيام أول خميس من رجب ، أو اختراع عدد
معين من التسبيح والتهليل ، يعتقد أن له مزيّةً على غيره ، أو يقصد مكاناً مخصوصاً
يصلي فيه ، يعتقد فضله على غيره من الأمكنة .
ثالثاً : لا يحل لأحد أن يحتج بفعل شخص
، فيقلده في عبادة ، سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فلو فُرِض أن صحابياً أو تابعياً أو
إماماً من أئمة الدين انفرد بقول أو فعل ، مما يتقرب به إلى الله ، ولم يرد فيه
دليل شرعي من السنة ، فإنه لا يخرج عن كونه بدعةً ، ولا يحل متابعته وتقليده ، مع
التماس العذر له .
رابعاً : قد وردت أحاديث كثيرة وآثار
عن السلف لا يصح إسنادها ، فلا يحل الاستدلال بها في إثبات عبادة من قول أو عمل .
خامساً : ومن سوّغ العمل بالأحاديث
الضعيفة في فضائل الأعمال ، وضع له شروطاً لا بد من توفرها :
1 - أن لا يكون الحديث شديد الضعف .
2 - أن يكون العمل مندرجاً تحت أصل
شرعي .
3 - أن لا يعتقد ثبوته عن النبي صلى
الله عليه وسلم .
ومعنى هذه الشروط ، أن يكون العمل في
أصله مشروعاً ، ثم يرد في فضله حديث ضعفه يسير ، مثال ذلك : صلاة الليل ، فقد ثبت
في فضلها والتأكيد عليها أحاديث كثيرة ، فلو ورد حديث ينص على أن من صلى الليل كثر
رزقه - مثلاً - وكان الحديث ضعيف الإسناد ، ليس بمنكر ولا موضوع ، فإن مثل هذا لا
بأس في العمل به ، لأنه لا ضرر من ذلك ، فلم يخترع عبادة ، وإنما ذكر فيها فضل
تكثير الرزق .
على أنه ينبغي أن لا يعتقد صحة الحديث
، بل يرجو أن يناله شيءٌ من ذلك الفضل على
سبيل الظن .
سادساً : لو ثبت تفضيل زمان أو مكان
بأحاديث صحيحة ، فإن هذا لا يبيح اختراع عمل خاص
في ذاك الزمان والمكان .
فالأشهر الحرم لها فضل على غيرها ، لكن
لا يحل تخصيصها بزيادة عمل ، من صلاة وصيام ، وغير ذلك .
وقد تقدم بيانه في البحث السابق في رجب
.
وتخصيص الدعاء تحت ميزاب الكعبة -
مثلاً - لا دليل عليه .
وتحرّي الصلاة في المساجد السبعة في المدينة
النبوية ، لا دليل عليه .
" فضل نصف شعبان
"
وردت أحاديث عدة في فضل النصف من شعبان
، منها :
1 - < يطّلع الله تبارك وتعالى إلى
خلقه ليلة النصف من شعبان ، فيغفر لجميع خلقه ، إلا لمشرك أو مشاحن > .
2 - < إن الله ينزل ليلة النصف من
شعبان إلى السماء الدنيا ، فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب > .
( كلب ) قبيلة مشهورة عددها كبير .
قلت : ووردت نحو هذين الحديثين أحاديث
أخرى بنحوهما .
وقد اختلف فيها ، فضعّفها الأكثرون ،
كما قال ابن رجب في لطائف المعارف .
وسبقه إلى ذلك أئمة ، والكلام في ذلك
يطول .
" الاحتفال بيوم
النصف وليلته "
ولو فرضنا - جدلاً - صحة الأحاديث
الواردة في فضل النصف ، فإن هذا لا يبيح الاحتفال به ، بتخصيص صوم أو صلاة أو دعاء
أو ذكر .
لأن في ذلك افتئاتاً على الشريعة ،
وتقديماً بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، واستدراكاً على سنته وهديه .
وما ورد في تخصيص عبادة يوم النصف من
شعبان وليلته ، فهو مكذوب .
فإن قيل : قد احتفل بعض التابعين بتلك
الليلة ، من أهل الشام !
قلنا : هل خفي على النبي صلى الله عليه
وسلم وعلى أصحابه من الخلفاء الراشدين فضل العمل في تلك الليلة وفي يومها ؟
ولو كان خيراً ما سبقهم إليه أحد من
الخلق ، لا أهل الشام ولا غيرهم .
وإليك طرفاً مما كتبه الشيخ علي محفوظ
، رحمه الله ، عضو جماعة كبار العلماء بالأزهر ، في كتابه الماتع " الإبداع
في مضار الابتداع " ، قال "ومن البدع الفاشية في الناس احتفال المسلمين
في المساجد بإحياء ليلة النصف من شعبان بالصلاة والدعاء عقب صلاة المغرب ، يقرؤونه
بأصوات مرتفعة بتلقين الإمام ، فإن إحياءها بذلك على الهيئة المعروفة لم يكن في
عهد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ، ولا في عهد الصحابة رضوان الله عليهم
أجمعين .
وإنما اشتهر عن خالد بن معدان ومكحول
الشامي من التابعين .." إلى أن قال " وجملة القول أن كل الأحاديث
الواردة في ليلة النصف من شعبان ، دائر أمرها بين الوضع والضعف وعدم الصحة ..
وأما الصلاة المخصوصة التي يفعلها بعض
الناس في هذه الليلة ، فقد ذُكرَ حديثها في الإحياء ، وقوت القلوب ، ولكن قد صرّح
جماعة من الحفاظ بأنه موضوع .
قال الحافظ ابن الجزري ( وأما صلاة
الرغائب - أول خميس من رجب - وصلاة ليلة النصف من شعبان .. فلا تصح ، وسندها موضوع
باطل ) .
وقال الحافظ العراقي ( حديث صلاة ليلة
النصف موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذب عليه ) .. " .
ثم نقل الشيخ علي محفوظ نحو ذلك عن
النووي ، والطرطوشي ، وأبي شامة .
ثم ذكر الشيخ ما يفعله كثير من العوام
من المسارعة في تلك الليلة إلى المساجد قبيل الغروب والدعاء بقولهم ( ياذا المنّ
ولا يمنّ عليه.. ) الخ ، وبقولهم ( إلهي بالتجلي الأعظم في ليلة النصف من شهر
شعبان المعظم ..) الخ .
ثم ذكر الشيخ ما يعتقده كثير من الناس
أن ليلة النصف هي المعنيّة في قوله تعالى { إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا
منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم } ، وقال : هي ليلة القدر في رمضان ، ونقل هذا عن
ابن كثير وابن العربي الذي قال: ( جمهور العلماء على أنها ليلة القدر ) .
انتهى نقله باختصار من كتاب الإبداع
للشيخ علي محفوظ [ ص 286 - 291 ] .
قلت : حسبي ما ذكرته في هذا المختصر ،
ولا يحتمل المقام نقل تفصيل الكلام ، والرد على شبهات المخالفين ، والله تعالى أعلم .
وكتب سمير بن خليل المالكي
مكة المكرمة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق