الأربعاء، 15 يونيو 2016

الاحتفال بليلة الإسراء

"الاحتفال بليلة الإسراء"

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد ، فقد أحدث في الأمة الإسلامية احتفالات بذكرى بعض الليالي والأيام التي حدثت في صدر الإسلام ، ومنها الاحتفال بذكرى ليلة الإسراء والمعراج، التي يزعم كثير من الناس أنها ليلة السابع والعشرين من شهر رجب، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ولا عن التابعين ولا عن الأئمة الأعلام في تعيين هذه الليلة شيئ.
كما لم يرد عنهم الاحتفال بها بتخصيص عبادة تفعل فيها، من صلاة ولا ذكر ولا دعاء، ومضت القرون الفاضلة والأمة على هذا الحال، حتى ظهر فيها مثل تلك البدع، وفشت في الأمة وتلقفها الجهال والأغمار، ولم تزل في ظهور وازدياد إلى هذا الزمان ، حيث صارت تشهر عبر وسائل الإعلام المختلفة.
وقد انبرى عدد من الأئمة الأعلام للرد على من زعم أن حادثة الإسراء كانت في رجب، وصنّفوا في ذلك مصنفات مشهورة، وذكروا أنه لم يصح في رجب حديث ولا أثر في تخصيصه بصلاة ولا صيام ولا عبادة.
قال ابن حجر العسقلاني في كتابه " تبيين العجب بما ورد في شهر رجب ً ما نصه < لم يرد في فضل شهر رجب ولا في صيامه ولا في صيام شيئ منه معين ، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة.
وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمام أبو إسماعيل الهروي الحافظ، رويناه عنه بإسناد صحيح، وكذلك رويناه عن غيره ..> . ( ص 2 ).
ثم ذكر الحافظ ابن حجر جملة من الأحاديث الضعيفة والموضوعة في فضل رجب وصيامه وصيام بعض أيامه، وأطال الكلام فيها.
ومما ذكره الحافظ صلاة الرغائب، وهي صلاة ليلة أول جمعة من رجب، يسبقها صيام الخميس، ثم يصلى بين العشائين ثنتي عشرة ركعة، يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب مرة، وسورة القدر ثلاث مرات، وقل هو الله أحد ثنتي عشرة مرة.. الخ.
ثم نقل الحافظ عن بعض الأئمة قوله: هذا حديث موضوع، ووافقه على ذلك.
ومما ذكره الحافظ، أيضاً، حديث فضل صيام يوم السابع والعشرين، وضعّفه.
ثم ذكر الحافظ أثرين في صيام رجب وصحح إسنادهما:
الأول: عن ابن عباس أنه كان ينهى عن صيام رجب كله، ألا يتخذ عيداً.
والثاني: عن عمر بن الخطاب أنه كان يضرب أيدي الرجال في رجب إذا رفعوها عن الطعام حتى يضعوها فيه، ويقول: إنما هو شهر كان أهل الجاهلية يعظمونه.
ثم قال الحافظ: فهذا النهي منصرف إلى من يصومه معظماً لأمر الجاهلية.
أما إن صامه لقصد الصوم في الجملة، من غير أن يجعله حتماً، أو يخص منه أياماً معيّنة، يواظب على صومها، أو ليالٍ معينة يواظب على قيامها، بحيث يظن أنها سنة.. فلا بأس به، فإن خص ذلك، أو جعله حتماً، فهذا محظور، وهو في المنع بمعنى قوله صلى الله عليه وسلم < لا تخصّوا يوم الجمعة بصيام، ولا ليلتها بقيام > رواه مسلم.
قال سمير: تأمل ما ذكره الحافظ هنا في تخصيص يوم معين أو ليلة معينة بعبادة، بحيث يظن أن لها فضلاً على غيرها - من غير دليل شرعي صحيح - فهذا التخصيص هو المحظور.
وتأمل استدلاله بحديث النهي عن تخصيص يوم الجمعة بصيام، أو ليلتها بقيام، فهذا يدل على فقه متين، لأن يوم الجمعة قد صح أنه أفضل يوم طلعت في الشمس، ومع ذلك فإن تخصيصه بعبادة لم يرد فيها نص بعينها، منهي عنه.
وكذلك سائر أيام السنة ولياليها.
ومن هنا تعلم الفرق الكبير بين الراسخين في العلم، وبين من يظن أنه يعلم ويفقه، ممن ابتليت الأمة بهم، فيخترعون عبادات: صلوات وأذكار، لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم كاختراعهم لصلاة الرغائب، في أول ليلة جمعة من رجب ( وقد تقدم ذكرها ).
وصلاة ليلة النصف من شعبان، التي تسمى الألفية (مائة ركعة: في كل ركعة يقرأ قل هو الله أحد عشر مرات )، ومثل كثير من الأدعية والأذكار المخترعة التي ابتدعها الناس، وربما ورد فيها أحاديث موضوعة، فتلقفها الجهال، وظنوا أنها من القربات.
وهذه العبادات المحدثة أدرجها العلماء - ومنهم الشاطبي - تحت مسمى: البدع الحقيقية.
وأما القسم الآخر من المحدثات: فهو أن يعمل بعبادة وردت في الشرع، كالصيام والقيام، لكنه يخص أوقاتاً معينة - لم يرد فيها تخصيص في الشرع - أو يخص مكاناً معيناً، أو هيئة (أي طريقة ) معينة، أو عدداً معيناً، لم يرد في الشريعة نص صحيح بمثل ذلك التعيين والتخصيص، فهذا من البدع التي تندرج تحت مسمى: البدع الإضافية.
وانظر تفصيل الكلام على ذلك في الاعتصام للشاطبي.
فتخصيص يوم السابع والعشرين من رجب بصيام، أو ليلته، أو التي تليها، بقيام، يعد من البدع حتى لو قيل إنها ليلة الإسراء والمعراج.
فكيف إذا تبين أنها ليست كذلك، وأن الأئمة السابقين أنكروا أنها حدثت في شهر رجب أصلاً ؟!
قال أبو الخطاب بن دحية: ذكر بعض القصّاص أن الإسراء كان في رجب، وذلك عند أهل التعديل والتجريح، عين الكذب.
وأقرّه على ذلك أبو شامة في كتابه الباعث على إنكار البدع والحوادث.
وذكر ابن كثير الخلاف في شهرها، فقيل: 
في ذي القعدة، أو في ربيع الأول، أو في أول جمعة من رجب، أو ليلة السابع والعشرين.
وذكر الحافظ في فتح الباري عشرة أقوال فيها.
والحاصل: أن القول بتعيين ليلتها وشهرها لم يثبت في النقل، وهذا أظهر دليل على منع الاحتفال بها وتخصيصها بعبادة، وإلا لأشهروا العمل فيها، ولما حصل مثل ذلك الاختلاف في تعيينها.
وراجع إن شئت المزيد: تبيين العجب للحافظ ابن حجر، والباعث لأبي شامة، والحوادث والبدع للطرطوشي، وزاد المعاد لابن القيم.
" تنبيه "
كتب الصحفي عبدالله خياط في صحيفة عكاظ مقالاً، قبل يومين عن صيام رجب والاحتفال بليلة الإسراء، وجاء فيه من الخلط والجهل ما لا يستغرب من مثله، وبعض الصحفيين من أمثاله يظنون أن الكلام في مسائل الدين والإفتاء فيه أمر هيّن، وأنه كلأ مباح لكل سائمة.
ولو عرفوا خطر ما يقدمون عليه، وجرم ما يفعلونه، لما تساهلوا فيه، والنصوص قاطعة بتحريم التقول على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى دينه بغير علم.
وهؤلاء اغترّوا بما فتح للناس ويسر لهم من بحث في المصنفات عن طريق الشبكة العنكبوتية وغيرها، وبما ينقل لهم عبر وسائل الإعلام من مقالات وخطب، فيظن هؤلاء أن الأمر يسير، فيتكلمون في الحلال والحرام والمعتقدات ومسائل الإيمان، وليس الأمر كذلك.
وكما أن العلوم الأخرى لها أناس قد اختصوا بها، لا يصلح أن يخوض غمارها ويغوص في أعماقها الدخلاء فيها، ممن لم يتلقّ القدر الكافي من علومها، ويتمرس عليها حتى يتمكن من سبر غوارها، ويصبح أهلاً للإفتاء فيها.. فكذلك لا يصح أن يتكلم في الدين إلا أهله.
ولن أطيل أكثر في تقرير هذا الأصل، فإنه لا يخالف فيه إلا من سفه نفسه، وعرّضها لسخرية الناس.
وسأذكر بعض ما خلّط فيه الصحفي في مقاله:
-       ذكر أنه بعد حادثة الإسراء " فشا الإسلام بمكة في قريش والقبائل كلها " .
وهذا جهل وكذب صريح، فإن حادثة الإسراء وقعت قبل البعثة بسنة أو بسنتين - أو نحو ذلك- على الخلاف المشهور، وكان أذى قريش وكفرهم وعنادهم قد استفحل، ولما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإسراء زاد تكذيبهم وعنادهم، بل ارتد بعض من كان قد أسلم.
وهذا مذكور في الأحاديث الصحيحة، واتفق عليه أهل السير.
ولهذا كانت الهجرة إلى المدينة بعدها.
وأما فشوّ الإسلام في مكة فقد حصل يوم الفتح.
وأما فشوّه في القبايل فقد حصل شيئاً فشيئاً، وزاد بعد صلح الحديبية، ثم كثر عام الوفود في السنة التاسعة.
-       قال: حتى إن لم يثبت أن ليلة 27 من شهر رجب هي ليلة الإسراء.. فما هو المانع من إحياء تلك الليلة بتلاوة القرآن والصلاة بقدر ما استطاع.
أما المنع من القيام بشيئ من ذلك هو دليل على جهل من عمله وقدم على ذلك، فرب العزة والجلال بسورة العلق، وهي السورة التي جاء في بعض آياتها { أرأيت الذي ينهى * عبداً إذا صلى .. } . الآيات.
قال سمير: هذا جهل مركب من جهالات، بعضها فوق بعض؛ إذا أخرج يده لم يكد يراها !!
والأسلوب ركيك، كأن الكاتب قد نعس وهو يكتب !
وقد تقدم بيان أن تخصيص وقت بعبادة ( ولو كانت العبادة مشروعة في الأصل: كصيام وقيام وذكر )، إن لم يرد فيه دليل خاص، فهو من البدع الإضافية، بخلاف من قام ليلة أو صام يوماً، لا ينوي تخصيصه لأجر زائد فيه، وإنما وافق ذلك يوم صيام مشروع، كالإثنين أو الخميس، أو وافق فراغاً، أو نشاطاً للقيام والصلاة والذكر، فهذا لا حرج فيه.
وقد فصّل القول في ذلك الشاطبي في الاعتصام.
وأما استدلال الخياط بآيات سورة العلق، فهو جهل آخر، أكبر من سابقه.
لأن الآية نزلت في أبي جهل وما فعله وقاله للنبي صلى الله عليه وسلم.
وتشمل بعموم سياقها من ينهى عبداً عن فعل طاعة مشروعة، وأما العبادة المنهي عنها، فلا تدخل في ذلك يقيناً.
وإلا فما يقول في النهي عن النوافل المطلقة بعد الصبح والعصر ؟ 
والنهي عن صيام العيدين ؟
وعن قراءة القرآن في الركوع والسجود ؟ 
وغيرها من العبادات التي ورد النهي عنها في الأحاديث الصحيحة ؟
وكذلك النهي عن البدع والمحدثات.
ونهى أصحابه من بعده الناس كذلك عن العبادات المخترعة.
فقد صحّ أن عمر بن الخطاب كان يضرب من يتنفل بالصلاة بعد العصر.
وتقدم أن عمر كان يضرب أيدي الرجبيين ( الذين يتحرّون الصيام من أجل رجب ).
وقد ذكر أبو شامة المقدسي في كتابه الباعث، هذه الشبهة بعينها، وفنّدها.
وإني أنصح الكاتب وغيره من الصحفيين المتعالمين الذين يتسورون مسائل الدين، وهم ليسوا من حملته، ويهرفون بما لا يعرفون، أن يتقوا الله فيما يكتبون وينشرون، وألا تأخذهم نشوة الظهور والغرور، والتزلف لنيل رضا بعض المتنفذين، فإن عاقبة ذلك وخيمة - إلا أن يشاء الله أمراً آخر - فله الخلق والأمر { يقص الحق وهو خير الفاصلين } .


وكتب سمير بن خليل المالكي الحسني
مكة المكرمة
يوم الجمعة
٢٩ / ٧ / ١٤٣٧ هـ


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق