" الاختيار لليُسر في الاعتمار "
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول
الله .
أما بعد ، فإن من أخص خصائص الشريعة
الإسلامية ، اليسر في أحكامها ، ورفع الحرج عن أهلها ، وقد تواترت النصوص في تقرير
ذلك كما في قوله تعالى { وما جعل عليكم في الدين من حرج } ، وقوله { يريد الله بكم
اليسر ولا يريد بكم العسر } ، وقوله { يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً
} .
وورد في السنة تأكيده ، كما في الصحيح
"إن الدين يُسر ، ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه " .
و" خذوا من العمل ما تطيقون ..
" .
وفي حديث عائشة " إن كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم لَيدَع العمل ، وهو يحب أن يعمل به ، خشية أن يعمل به
الناس ، فيفرض عليهم ".
وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم
أعمالاً لم يعملها ، وترك الأمر بها ، شفقة على الأمة ، أن يتابعوه عليها ، فتفرض
عليهم ، أو يشق عليهم تركها ، حتى لو لم تفرض ، فيكلَفوا ما لا طاقة لهم بالمداومة
عليه ، ولا بتركه ، فيقعوا في الحرج .
كقوله " لولا أن أشقّ على أمتي
لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء " .
وكقوله ، لما دخل الكعبة " لو
استقبلت من أمري ما استدبرت ما دخلتها ، إني أخاف أن أكون قد شققت على أمتي "
. رواه أبو داود .
وكل أحكام الشريعة ، عبادات ومعاملات ،
مبناها على الرفق والتيسير ، ورفع المشقة والتعسير ، والأمثلة في ذلك تجلّ عن
الحصر.
" تكرار العمرة "
ومن صور التيسير في العمرة ، أنها لا
تجب إلا مرة واحدة في العمر ، على المستطيع ، وقد اختلف في وجوبها أيضاً .
ومن أهل العلم من لم يستحب تكرارها في
العام أكثر من مرة ، كالمالكية ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر أكثر من
عمرة في العام الواحد .
ومنهم من قال : في كل شهر مرة .
ومنهم من رأى أنه يكررها متى شاء ، ولو
في اليوم أكثر من مرة .
واحتجّوا بحديث " العمرة إلى
العمرة كفارةٌ لما بينهما " . متفق عليه .
ولم يحدّ في أدائها زمان مخصوص ، فتصح
في كل وقت .
إلا ما استثناه بعض أهل العلم من أيام
، فقالوا لا يفعلها الحاج في خمسة أيام : يوم عرفة ، ويوم النحر ، وأيام التشريق
الثلاثة .
أما غير الحاج فله فعلها مطلقاً .
" العمرة المكية "
ومما اختلف فيه أهل العلم ، الاعتمار
من مكة خارجاً منها ، بمعنى : أن يخرج من مكة إلى الحلّ ( إما التنعيم وإما غيرها
) ثم يدخل مكة ويطوف ويسعى .
فالجمهور على أن ذلك مشروع ، واحتجوا
عليه بعمرة عائشة ، بعد قضائها الحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث أمر أخاها
عبد الرحمن أن يذهب بها إلى الحلّ فتعتمر منه .
وذهب ابن عباس وطاووس وعطاء إلى أنها
غير مشروعة ، وانتصر لهذا القول ابن تيمية . [مجموع الفتاوى 26/ 264 ] .
لأنه لم يفعلها رسول الله صلى الله
عليه وسلم ولا أصحابه ، لا بعد حجة الوداع ، ولا قبل ذلك ، فإن عمراتهم كلها كانت
وهم داخلون إلى مكة .
وقالوا : إن طواف المكي بالبيت هو
الركن الأساس للعمرة ، فخروجه من مكة ليعود إليها للطواف سعيٌ في لا شيء ، ومشقة
لا فائدة فيها ، وبين أن يخرجوا عدة أميال إلى الحل ويعودوا ، يمكنهم الطواف مرات
عديدة .
وأجابوا عن عمرة عائشة من التنعيم ،
بأنها هي التي ألحّت على الرسول صلى الله عليه وسلم في فعلها ، لأنها قدمت إلى مكة
متمتعة ، فلما وصلت قرب مكة ( في سَرِف ) حاضت ، فلم تقدر على فعل العمرة ، فأدخلت
عليها الحج وصارت قارنة ، فلما قضت الحج أرادت أن تأتي بعمرة مفردة ، فأخبرها
النبي صلى الله عليه وسلم أنها قد فرغت من حجها وعمرتها ، فألحّت عليه ، فأذن لها
فيها .
قالوا : فلولا إصرارها عليها لما أَذِن
لها بفعلها ، ولو كانت مستحبة لفعلها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ولرغّب
في فعلها.
وقالوا : هذا عبد الرحمن أخوها ، لم
يفعلها ، وإنما اكتفى بمرافقتها .
وأجاب الجمهور بأن إذن النبي صلى الله
عليه وسلم لعائشة في فعلها دليل صريح على مشروعيتها [ الفتح 3/ 606 ] ، حتى لو قيل
إنه أذن لها تطييباً لخاطرها ، وإنها كانت إذا هويت الشيء تابعها عليه [رواه مسلم
] .
فإن ذلك لا ينفي مشروعيتها ، ولو كانت
مكروهة لما أذن لها فيها .
كل ما في الأمر أنه صلى الله عليه وسلم
كان رفيقاً بها ، وبسائر الأمّة ، فما أراد أن تتكلّف مشقة فعلها ، وأخبرها بأنها
قد حصل لها العمرة مقرونةً بالحج .
فلما رأى عزمها على فعل عمرة مفردة ،
كما فعلت صويحباتها ، أذن لها فيها.
فهو إِذْنُ تشريع وسنة ، لا يصح أن
يُقال فيه غير ذلك ، ويؤيده قوله لها "إن لك من الأجر على قدر نصَبك
ونفقتك" .
رواه البخاري ومسلم والحاكم ، واللفظ
له .
ومثل هذا لا يقال إلا في القربات
المشروعة .
وأجاب الجمهور كذلك بتواتر فعل العمرة
المكية من زمن الصحابة والتابعين ومن بعدهم .
وقد فعلها من الصحابة بعد زمن النبوة ،
صاحبة القصة ، عائشة ، كما في رواية مسلم قال أبو الزبير " وكانت عائشة إذا
حجت صنعت كما صنعت مع نبي الله صلى الله عليه وسلم " .
واعتمر أنس وابن الزبير وابن عمر وجابر
وأم الدرداء وغيرهم من مكة . البيهقي [4/344] ومصنّف عبدالرزاق [5/ 127].
وأجاب الجمهور عن فتوى ابن عباس في
المنع منها ، بما رواه ابن أبي شيبة [ 4 / 87 ] عنه أنه قال " لا يضركم يا
أهل مكة أن لا تعتمروا ، فإن أبيتم ،
فاجعلوا بينكم وبين الحرم بطن الوادي " .
ومعناه ، كما قال عطاء : أن يجعلوا
بينهم وبين مكة بطن واد من الحل .
ثم نقول مع ذلك : إن تكرار العمرة من
مكة ، على نحو ما نراه اليوم من كثير من الناس ، ابتغاءً للأجر ، فيه مشقة عظيمة ،
على أنفسهم ، وتضييق على إخوانهم المعتمرين الذين قصدوا مكة من ديار بعيدة ،
فيزاحمهم المكثرون من العمرة المكية ، فلو أنهم اعتاضوا عنها وعن كثرة الطواف،
بغيرها من أعمال البر ، كالصلاة والقراءة والذكر ، في البيوت ، أو في المساجد
القريبة ، لكان أولى .
" عمرة رمضان "
واختلف في أفضل أوقات العمرة ، والأكثر
على القول بأن عمرة رمضان أفضل ، وأنها تعدل حجة .
لما ورد في الصحيحين من حديث ابن عباس
، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من حجته قال لأم سنان الأنصارية "ما
منعك من الحج " ؟
فاعتذرت له بأن زوجها خرج للحج مع ابنه
على ناضح ، وترك ناضحاً للسقيا .
فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم
" فإذا كان رمضان اعتمري فيه فإن عمرة في رمضان تعدل حجة (أو قال حجة معي )
" .
والحديث وقع فيه اختلاف في قوله (حجة )
أو ( حجة معي ) .
ووقع اختلاف في اسم المرأة ، فقيل : أم
سنان ، وقيل أم معقل ، وقيل أم سليم ..
ثم وقع الخلاف ، أيضاً ، في دلالة
الحديث ، فقيل إنه خاص بتلك المرأة ، لأنها أرادت الحج مع النبي صلى الله عليه
وسلم ، فلم يتهيّأ لها مرادها ، فأرشدها إلى ما يعدل أجر حجة ، إما مطلقاً ، وإما
معه .
وممن اختار هذا القول سعيد بن جبير . [
الفتح 3 / 605 ] .
ويؤيده رواية أبي داود (و سمى المرأة
أم معقل ) وفيه قال " فأما إذا فاتتك هذه الحجة معنا، فاعتمري في رمضان ،
فإنها كحجة ".
وجاء في آخر الرواية أنها قالت "
الحج حجة ، والعمرة عمرة ، وقد قال هذا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما أدري
ألي خاصة " ؟
وقد انتصر لهذا القول ابن تيمية وجعل
لثواب العمرة في رمضان درجات ، حسب فهمي لمراده .
أعلاها : أن عمرة رمضان تعدل حجةً مع
النبي صلى الله عليه وسلم ، لتلك المرأة ، ولمن كان مثلها ، ممن أراد الحج مع
النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم منعه منها عارضٌ . وهذا خاص بزمن النبوة بالشرط
المذكور .
ودون ذلك : من أراد الحج ، بعد زمن
النبوة ، فحبسه عذر ، فاعتمر في رمضان التالي ، فهذا له أجر حجة فقط .
ودون ذلك : من أتى بعمرة في رمضان ، من
آحاد الناس ، فهذا قد يحصل له أجر حجة ، إن جاء بها محرماً من الميقات ، فإنه قد
اجتمع له فضل الزمان - في رمضان - وشرف المكان -في المسجد الحرام - فلا يبعد أن
يناله مثل ذلك الأجر العظيم .
وأما من اعتمر في رمضان من مكة ، فهذا
يبعد أن يحصل له مثل أجر من أنشأ لها سفراً . مجموع الفتاوى [ 26 / 292 ] .
ولابن القيم كلام ، بنحو هذا ، وقد
اختار أن أفضل وقت للعمرة ، ما اختاره الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو
العمرة في ذي القعدة ، وقال : وهذا مما نستخير الله فيه ، فمن كان عنده فضل علم
فليرشد إليه .
تهذيب السنن [7/ 36] وزاد المعاد [2
/90 ]. وذكر ابن القيم وغيره أن عمراته الأربع
كلها قد وقعت في ذي القعدة .
1- عمرة الحديبية ، في العام السادس
للهجرة ، وقد حسبت له مع كونه صُدّ عنها .
2- وعمرة القضية ( أو القضاء ) ، وهي
التي قاضى قريشاً ( أي صالحهم ) عليها ، وكانت في العام السابع .
3- وعمرة الجعرانة ، وكانت في العام
الثامن بعد فتح مكة ، وبعد عودته من حصار الطائف ، ودخل من جهة جعرانة ليلاً .
4- والعمرة التي أتى بها مقرونة مع
حجته في السنة العاشرة .
قال سمير
: فضل الله واسع ، فلا يبعد أن يحصل للمعتمر في رمضان مثل هذا الأجر العظيم ، لكن
هذا لا يقتضي ترك الاعتمار في الأشهر الأخرى ، خاصةً في ذي القعدة ، تأسياً بفعل
النبي صلى الله عليه وسلم .
ثم إن هناك أعمالاً كثيرة ، ورد فيها
ثواب عظيم ،
وليس فيها مثل مشقة العمرة في رمضان ،
ولا قريب منها ، كذكر الله ، والصلاة ، والصيام ، والصدقة ، فلم يحصر الثواب
والمغفرة في عمل واحد .
خاصةً النساء والضعفة والمرضى ، فإن
هؤلاء يستحب لهم اختيار العمل اليسير ، البعيد عن الزحام والعراك .
رأينا من يكثر من الاعتمار في رمضان في
هذا الزمان ، رغبة في الأجر العظيم ، لكننا رأيناهم يتجشمون المشاق العظام ، ويحصل
لهم من العنت والحرج الشديد ، وربما وقع لهم أذىً في أنفسهم وأزواجهم وأولادهم
وأموالهم .
والله تعالى يقول { ولا تقتلوا أنفسكم
إن الله كان بكم رحيماً } .
ولما صاح بعض الصحابة بالذكر قال لهم
النبي صلى الله عليه وسلم مشفقاً عليهم " اربعوا على أنفسكم " .
أي : ارفقوا ولا تجهدوا أنفسكم .
والمشقة متيقنة في عمرة رمضان من كل
جهة ، أولها وصول المعتمر إلى قرب ساحات المسجد الحرام ، وما يلقاه من عناء الزحام
، وربما انتظر وقتاً طويلاً حتى يتسنى له الوصول إلى الساحات ، ثم تبدأ رحلة
المعاناة للدخول من أبواب المسجد ، ولا يزال يتنقل من عناء إلى عناء ، حتى ينتهي
من أداء عمرته ، ولا يكاد يسلم من مدافعة الناس ، وربما أدى إلى شجار وسباب وعراك
، ومن كان معه بعض أهله فعناؤه متحقق ، وإيذاؤه متيقن .
ولا تسلْ هناك عن غفلة أكثر القلوب عن
الخشوع والسكينة ، وعن ضياع أكثر السنن ، في معمعة الزحام الشديد ، وما تورثه تلك
المدافعات ، من هنا وهناك ، من شحناء وبغضاء ، وسباب وقتال .
فهل بمثل هذا تتحصل الحسنات ، وتنال
أرفع الدرجات ؟
والخوف من أن ينعكس المقصود ، ولا يكون
حظ المعتمر من عمله إلا التعب والنصب ، وضياع الثواب والأجر .
وقد ورد في الحديث ما يشبه هذا ، ويمكن
أن يقاس عليه " رُِبّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ، ورب قائم ليس
له من قيامه إلا السهر والتعب " . رواه ابن ماجه .
والمقصود أن يحتاط المسلم لعبادته ،
فيختار الوقت الأوفق لأدائها على الوجه الأكمل ، ولو أداها في الوقت المفضول .
( لأن الفضيلة المتعلقة بذات العبادة ،
أولى من الفضيلة المتعلقة بمكانها أو زمانها ) .
فإذا قدّر لك أن تعتمر وحدك ، أو مع
أهلك ، في وقت لا يكون فيه مثل هذا الزحام والعراك ، من أيام السنة ، ولو كان
أجرها أقل من فعلها في رمضان ، فيكون أخشع لقلبك ، وأدعى لأدائها على وفق السنة ،
وأبعد من الوقوع في إثم المدافعة والمغالبة وما يتبعها ، فإن ذلك أولى وأحرى ، بل
ربما تتحصل على أجر وثواب أعلى .
ولهذا نظائر كثيرة في العبادات .
فقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم
الوقت المفضول لصلاة العشاء ، عن الوقت الأفضل ، لئلا يشق على أمته .
واختار الإبراد لصلاة الظهر في الحر
الشديد رفعاً للحرج عنهم .
وقد حصل في حجة النبي صلى الله عليه
وسلم من التيسير على الناس ، خاصة النساء والضعفة ، الشيء الكثير ، فاختار لهم النفر
من مزدلفة ليلاً ، مع تفويت الأفضل وهو المبيت إلى الإسفار ، ورموا بالليل ليلة
النحر ، مع أن الأفضل تأخيره إلى الضحى.
وقد أفتى ابن عمر لزوجته أن تؤخر رمي
الجمار إلى الليل ، مع أن السنة رميها بعد الزوال .
والكلام في هذا يطول ، والله تعالى
أعلم .
وكتب سمير بن خليل
المالكي
مكة المكرمة
الجمعة ٥/ رمضان /
١٤٣٧هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق