نصيحة للشيخ
المغامسي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول
الله .
أما بعد ، فقد استمعت إلى كلام الشيخ
المغامسي في حكم المعازف ، فوجدت فيه خلطاً في تحرير المسألة ، لا من حيث اختياره
للقول بعدم التحريم ، فإن القول به مذهب قديم ، ولكن لأنه قعّد قاعدةً عجيبة في
مقاله .
حيث ذكر، في معرض كلامه عن المعازف ،
استدلال من حرّمها بما ورد في تفسير { لهو الحديث } أنه الغناء ، ثم رد عليه بأن
هناك اختلافاً في تفسير الآية ، وبأن المعازف لا تدخل في مدلول الآية ، وليس لها
ذكر ، وإنما الذي يدخل فيه هو الغناء فقط، ثم ذكر بعد ذلك ما هو أخطر من ذلك ،
فقال ما مفاده : إنه لما أراد ربنا أن يحرم الربا والزنا والميتة ، أنزل آيات في
تحريمها ، فلو أراد قطع العذر في حكم المعازف لأنزل آيةً صريحة فيها ، فلما لم
يفعل ذلك ، ولم يثبت في حكمها إجماع ، فلا ينبغي لأحد أن يجترىء على القول
بتحريمها!
قال سمير :
ما ذكره الشيخ هنا يعد من المزالق التي تؤدي إلى هدم أصول الأحكام وقواعد
الاستدلال ، وتسقط الاحتجاج بأكثر الأحاديث النبوية والآثار السلفية ، في العقائد
والفرائض والحلال والحرام ، لأنه قل أن يثبت فيها الإجماع القطعي ، بل قد ورد في
معظمها خلاف عند بعض المنتسبين للملة .
وعليه فلن يستقيم لنا الاحتجاج على
المخالفين في العقائد والأحكام (على رأي الشيخ ) إلا بصريح ما ورد في القرآن ، وما
صح فيه الإجماع القطعي !
وهذه الشبهة بعينها هي التي تذرع بها
أكثر الطوائف المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة ، ومنهم الفرقة التي تسمى
"القرآنيون" ومن نحا نحوهم ، ممن اشتهروا بإنكار السنة ، وحصر الاستدلال
بالقرآن !
وقد نبتت منهم نوابت في القرن الأول
الهجري ، وشنّع عليهم أئمة السلف ، ثم لم يلبثوا في ازدياد إلى أن ظهرت لهم فرق في
الهند ومصر وغيرها قبل أكثر من قرن .
وعليه فإننا نقول : إن خلافنا هنا، مع
الشيخ المغامسي ، ليس في حكم مسألة فرعية في الأحكام وفي الحلال والحرام ، بل
خلافنا معه في المنهج العام ، وفي طريقة الاستدلال والاحتجاج بالنصوص ، والخلاف
حينئذٍ خلاف أصول لا فروع .
وقد صرّحت بعض الفرق الكلامية المنتسبة
للإسلام ، من الخوارج والمعتزلة وغيرها ، في مقالاتها أنه لايستدل في العقايد إلا
بالأدلة القطعية - وهي آيات القرآن - وحين احتجّ عليهم أئمة السلف بالأحاديث
والآثار ، عارضوهم بأنها أحاديث آحاد ، تحتمل الصدق والكذب .
ومن ثمّ أنكروا ما لم يرد في صريح
الآيات : كعذاب القبر ، والصراط ، والحوض ، والميزان ، ورؤية المؤمنين لربهم في
الآخرة ، وانكروا أكثر الصفات الخبرية ، كالنزول ، والضحك ، والعجب ، وأنكروا أكثر
صفات الذات ، كالوجه ، والعينين ، والساق ، والقدم ، والأصابع .. وأنكروا الشفاعة
في أهل الكبائر ، إلى غير ذلك من المسائل المشهورة ، فقالوا : إنما وردت في أحاديث
تحتمل الكذب .
وقد رد عليهم أئمة السلف ، وصنفوا
المصنفات الكثيرة في العقائد والأحكام ، واحتجوا عليهم بنصوصها ، ولم يشترطوا أن
تكون أدلةً قرآنية ، ولا أحاديث متواترة ، ولا أن يثبت فيها إجماع قطعي .
وذكروا في مقدمة أصول الفقه ، في مبحث
الأدلة ، أن السنة قرينة الكتاب العزيز في الاستدلال بها ، وهي الأصل الثاني ،
وقدموها على الأصل الثالث -الإجماع- في كل كتب الأصول ، ونقلوا الاتفاق على هذه
الأدلة الثلاثة بمثل هذا الترتيب ، وهذا مما لا يكاد يجهله حتى صغار طلبة العلم .
ولم يزل نهج جماهير علماء الأمة من
السلف والخلف ، حتى يومنا هذا ، الاستدلال بالأحاديث النبوية الثابتة ، ولو كانت
آحاداً، في كل مسائل الدين ، صغيرها وكبيرها ، ولم يلتفتوا إلى خلاف المخالفين ،
وكتب الفقه والحديث والعقيدة طافحة بتقرير ذلك ، ولم يخالفهم إلا أهل البدع
والأهواء ، ممن لا يعتد بخلافهم .
ولا يحتمل مثل هذا المقال المختصر
تفصيل أكثر .
حكم المعازف
وإتماماً للفائدة ، فإننا نجمل القول
في حكم المعازف ، فنقول :
مذهب جماهير علماء الأمة ، تحريم
المعازف ، واستدلوا عليه بجملة من الأحاديث والآثار ، الواردة في الصحاح والسنن
والمسانيد.
ولم يشر الشيخ المغامسي إلى شيءٍ من
ذلك في مقاله ، فخرج بهذا عن جادة أهل العلم ، ممن حرّم المعازف ، وهم الأكثر ،
وممن أباحها ، وهم الأقل ، وأشهرهم أبو محمد بن حزم ، رحمه الله .
لأن الأولين احتجوا على تحريمها بثبوت
الأحاديث والآثار في التحريم ، والآخرين
احتجوا على تحليلها ، بعدم ثبوت الأحاديث المحرّمة ، وناقشوها من حيث الأسانيد
حديثاً حديثاً ، ولم يتذرّعوا بعدم ورود نص في القرآن ، ولا بالخلاف وعدم ثبوت
الإجماع، كما فعل المغامسي - هداه الله - بل نصّ ابن حزم في آخر كلامه على أنه لو
صح فيها حديث لقال به .
قال سمير :
أشهر حديث وأصحه في تحريم المعازف ، حديث البخاري في صحيحه ، حيث قال : وقال هشام
بن عمار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا عطية بن قيس
الكلابي حدثنا عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال حدثني أبو عامر ، أو أبو مالك ،
الأشعري ، والله ما كذَبَني ، سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول " ليكونن من
أمتي أقوام يستحلّون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف .. " الحديث ( 5590 ) .
وقد أخرج هذا الحديث أبو نعيم
والإسماعيلي في مستخرجيهما ، وابن حبان في صحيحه ، والطبراني في معجمه الكبير ،
كلهم بأسانيد متصلة إلى هشام بن عمار ، إلى آخر الإسناد .
كما أخرج الحديث البيهقي في السنن من
طريق آخر بنحوه .
انظر تفصيل الكلام في فتح الباري لابن
حجر [ 10 / 52 ] .
وقد انتصر العلماء لهذا الحديث ،
كالحافظ في الفتح ، ومن قبله ابن القيم في إغاثة اللهفان ، وشنّعوا على من ضعّفه ،
كابن حزم ، وعدّوا القول بإباحة الغناء والمعازف من زلات وشذوذ أهل العلم .
قال الإمام أحمد " لو أن رجلاً
عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع ، وأهل مكة في المتعة ،
كان فاسقاً ".
وقال آخر " إن أخذت برخصة كل عالم
، اجتمع فيك الشر كله " .
انظر الموافقات للشاطبي [ 5 / 134 ] .
ونقول :
لو لم يكن عند القائلين بتحريم المعازف إلا هذا الحديث ، الذي ارتضاه البخاري
واختاره في صحيحه ، وصححه الأئمة الحفاظ ، وانتصروا له ، ووافقهم عليه جماهير
العلماء من المحدثين والفقهاء والمفسرين ، لكان ذلك كافياً . كيف وقد وردت أحاديث
أخرى وآثار عن الصحابة والتابعين تؤيده ؟
وليس غرضي في هذا المقال تفصيل
الكلام عن حكم المعازف ، وقد سبق الكتابة
فيه من قبل .
وأختم مقالي بنصيحة أهديها لأخي
الشيخ المغامسي فأقول :
أخي ، أنت رجل وفق للوعظ والتأثير في
قلوب العامة ، ولديك فصاحة في الكلام ، وبلاغة في العبارة ، قلّما تجد مثلها اليوم
في طلبة العلم .
بارك الله فيك وعليك ، ووقاك شر العين
والحسد ، ورزقك الإخلاص في القول والعمل .
لكن مقام الوعظ والقصص شيء ، ومقام
العلم والإفتاء والتأصيل والاجتهاد والفقه في النصوص ونقد الأسانيد ، شيء آخر ،
فلا تقحم نفسك فيما لا طاقة لها به ، فتنادي عليها بالفضيحة أمام الخلق ، ولا تظهر
المخالفة لأقوال من سبقك من الراسخين في العلم ، وتخيّل لك نفسك أنك في مصافّهم ،
فإنك تعلم يقيناً ، أنك لست كذلك ، كما تعلم يقيناً أن علم جميع علماء الأرض اليوم
لا يبلغ معشار علومهم ، فحسبك أن تجهد في تحرير مذاهبهم ، وفهم مرادهم ، فتختار
منها أحسنه وأصوبه ، ثم تسأل ربك العافية والثبات على الحق .
أسأل الله أن يتولانا وإياك بعفوه
ومغفرته وكرمه ، ويحشرنا في زمرة نبيه وعباده الصالحين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله
رب العالمين.
وكتب سمير
بن خليل المالكي الحسني
مكة المكرمة
يوم الإثنين
٢٣/ ٨ / ١٤٣٧هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق