الأربعاء، 15 يونيو 2016

نصيحة للشيخ المغامسي

نصيحة للشيخ المغامسي

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .
أما بعد ، فقد استمعت إلى كلام الشيخ المغامسي في حكم المعازف ، فوجدت فيه خلطاً في تحرير المسألة ، لا من حيث اختياره للقول بعدم التحريم ، فإن القول به مذهب قديم ، ولكن لأنه قعّد قاعدةً عجيبة في مقاله .
حيث ذكر، في معرض كلامه عن المعازف ، استدلال من حرّمها بما ورد في تفسير { لهو الحديث } أنه الغناء ، ثم رد عليه بأن هناك اختلافاً في تفسير الآية ، وبأن المعازف لا تدخل في مدلول الآية ، وليس لها ذكر ، وإنما الذي يدخل فيه هو الغناء فقط، ثم ذكر بعد ذلك ما هو أخطر من ذلك ، فقال ما مفاده : إنه لما أراد ربنا أن يحرم الربا والزنا والميتة ، أنزل آيات في تحريمها ، فلو أراد قطع العذر في حكم المعازف لأنزل آيةً صريحة فيها ، فلما لم يفعل ذلك ، ولم يثبت في حكمها إجماع ، فلا ينبغي لأحد أن يجترىء على القول بتحريمها!
قال سمير : ما ذكره الشيخ هنا يعد من المزالق التي تؤدي إلى هدم أصول الأحكام وقواعد الاستدلال ، وتسقط الاحتجاج بأكثر الأحاديث النبوية والآثار السلفية ، في العقائد والفرائض والحلال والحرام ، لأنه قل أن يثبت فيها الإجماع القطعي ، بل قد ورد في معظمها خلاف عند بعض المنتسبين للملة .
وعليه فلن يستقيم لنا الاحتجاج على المخالفين في العقائد والأحكام (على رأي الشيخ ) إلا بصريح ما ورد في القرآن ، وما صح فيه الإجماع القطعي !
وهذه الشبهة بعينها هي التي تذرع بها أكثر الطوائف المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة ، ومنهم الفرقة التي تسمى "القرآنيون" ومن نحا نحوهم ، ممن اشتهروا بإنكار السنة ، وحصر الاستدلال بالقرآن !
وقد نبتت منهم نوابت في القرن الأول الهجري ، وشنّع عليهم أئمة السلف ، ثم لم يلبثوا في ازدياد إلى أن ظهرت لهم فرق في الهند ومصر وغيرها قبل أكثر من قرن .
وعليه فإننا نقول : إن خلافنا هنا، مع الشيخ المغامسي ، ليس في حكم مسألة فرعية في الأحكام وفي الحلال والحرام ، بل خلافنا معه في المنهج العام ، وفي طريقة الاستدلال والاحتجاج بالنصوص ، والخلاف حينئذٍ خلاف أصول لا فروع .
وقد صرّحت بعض الفرق الكلامية المنتسبة للإسلام ، من الخوارج والمعتزلة وغيرها ، في مقالاتها أنه لايستدل في العقايد إلا بالأدلة القطعية - وهي آيات القرآن - وحين احتجّ عليهم أئمة السلف بالأحاديث والآثار ، عارضوهم بأنها أحاديث آحاد ، تحتمل الصدق والكذب .
ومن ثمّ أنكروا ما لم يرد في صريح الآيات : كعذاب القبر ، والصراط ، والحوض ، والميزان ، ورؤية المؤمنين لربهم في الآخرة ، وانكروا أكثر الصفات الخبرية ، كالنزول ، والضحك ، والعجب ، وأنكروا أكثر صفات الذات ، كالوجه ، والعينين ، والساق ، والقدم ، والأصابع .. وأنكروا الشفاعة في أهل الكبائر ، إلى غير ذلك من المسائل المشهورة ، فقالوا : إنما وردت في أحاديث تحتمل الكذب .
وقد رد عليهم أئمة السلف ، وصنفوا المصنفات الكثيرة في العقائد والأحكام ، واحتجوا عليهم بنصوصها ، ولم يشترطوا أن تكون أدلةً قرآنية ، ولا أحاديث متواترة ، ولا أن يثبت فيها إجماع قطعي .
وذكروا في مقدمة أصول الفقه ، في مبحث الأدلة ، أن السنة قرينة الكتاب العزيز في الاستدلال بها ، وهي الأصل الثاني ، وقدموها على الأصل الثالث -الإجماع- في كل كتب الأصول ، ونقلوا الاتفاق على هذه الأدلة الثلاثة بمثل هذا الترتيب ، وهذا مما لا يكاد يجهله حتى صغار طلبة العلم .
ولم يزل نهج جماهير علماء الأمة من السلف والخلف ، حتى يومنا هذا ، الاستدلال بالأحاديث النبوية الثابتة ، ولو كانت آحاداً، في كل مسائل الدين ، صغيرها وكبيرها ، ولم يلتفتوا إلى خلاف المخالفين ، وكتب الفقه والحديث والعقيدة طافحة بتقرير ذلك ، ولم يخالفهم إلا أهل البدع والأهواء ، ممن لا يعتد بخلافهم .
ولا يحتمل مثل هذا المقال المختصر تفصيل أكثر .
حكم المعازف
وإتماماً للفائدة ، فإننا نجمل القول في حكم المعازف ، فنقول :
مذهب جماهير علماء الأمة ، تحريم المعازف ، واستدلوا عليه بجملة من الأحاديث والآثار ، الواردة في الصحاح والسنن والمسانيد.
ولم يشر الشيخ المغامسي إلى شيءٍ من ذلك في مقاله ، فخرج بهذا عن جادة أهل العلم ، ممن حرّم المعازف ، وهم الأكثر ، وممن أباحها ، وهم الأقل ، وأشهرهم أبو محمد بن حزم ، رحمه الله .
لأن الأولين احتجوا على تحريمها بثبوت الأحاديث  والآثار في التحريم ، والآخرين احتجوا على تحليلها ، بعدم ثبوت الأحاديث المحرّمة ، وناقشوها من حيث الأسانيد حديثاً حديثاً ، ولم يتذرّعوا بعدم ورود نص في القرآن ، ولا بالخلاف وعدم ثبوت الإجماع، كما فعل المغامسي - هداه الله - بل نصّ ابن حزم في آخر كلامه على أنه لو صح فيها حديث لقال به .
قال سمير : أشهر حديث وأصحه في تحريم المعازف ، حديث البخاري في صحيحه ، حيث قال : وقال هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا عطية بن قيس الكلابي حدثنا عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال حدثني أبو عامر ، أو أبو مالك ، الأشعري ، والله ما كذَبَني ، سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول " ليكونن من أمتي أقوام يستحلّون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف .. " الحديث ( 5590 ) .
وقد أخرج هذا الحديث أبو نعيم والإسماعيلي في مستخرجيهما ، وابن حبان في صحيحه ، والطبراني في معجمه الكبير ، كلهم بأسانيد متصلة إلى هشام بن عمار ، إلى آخر الإسناد .
كما أخرج الحديث البيهقي في السنن من طريق آخر بنحوه .
انظر تفصيل الكلام في فتح الباري لابن حجر [ 10 / 52 ] .
وقد انتصر العلماء لهذا الحديث ، كالحافظ في الفتح ، ومن قبله ابن القيم في إغاثة اللهفان ، وشنّعوا على من ضعّفه ، كابن حزم ، وعدّوا القول بإباحة الغناء والمعازف من زلات وشذوذ أهل العلم .
قال الإمام أحمد " لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع ، وأهل مكة في المتعة ، كان فاسقاً ".
وقال آخر " إن أخذت برخصة كل عالم ، اجتمع فيك الشر كله " .
انظر الموافقات للشاطبي [ 5 / 134 ] .
ونقول : لو لم يكن عند القائلين بتحريم المعازف إلا هذا الحديث ، الذي ارتضاه البخاري واختاره في صحيحه ، وصححه الأئمة الحفاظ ، وانتصروا له ، ووافقهم عليه جماهير العلماء من المحدثين والفقهاء والمفسرين ، لكان ذلك كافياً . كيف وقد وردت أحاديث أخرى وآثار عن الصحابة والتابعين تؤيده ؟
وليس غرضي في هذا المقال تفصيل الكلام  عن حكم المعازف ، وقد سبق الكتابة فيه من قبل .
وأختم مقالي بنصيحة أهديها لأخي الشيخ المغامسي فأقول :
أخي ، أنت رجل وفق للوعظ والتأثير في قلوب العامة ، ولديك فصاحة في الكلام ، وبلاغة في العبارة ، قلّما تجد مثلها اليوم في طلبة العلم .
بارك الله فيك وعليك ، ووقاك شر العين والحسد ، ورزقك الإخلاص في القول والعمل .
لكن مقام الوعظ والقصص شيء ، ومقام العلم والإفتاء والتأصيل والاجتهاد والفقه في النصوص ونقد الأسانيد ، شيء آخر ، فلا تقحم نفسك فيما لا طاقة لها به ، فتنادي عليها بالفضيحة أمام الخلق ، ولا تظهر المخالفة لأقوال من سبقك من الراسخين في العلم ، وتخيّل لك نفسك أنك في مصافّهم ، فإنك تعلم يقيناً ، أنك لست كذلك ، كما تعلم يقيناً أن علم جميع علماء الأرض اليوم لا يبلغ معشار علومهم ، فحسبك أن تجهد في تحرير مذاهبهم ، وفهم مرادهم ، فتختار منها أحسنه وأصوبه ، ثم تسأل ربك العافية والثبات على الحق .
أسأل الله أن يتولانا وإياك بعفوه ومغفرته وكرمه ، ويحشرنا في زمرة نبيه وعباده الصالحين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وكتب سمير بن خليل المالكي الحسني
مكة المكرمة
يوم الإثنين
٢٣/ ٨ / ١٤٣٧هـ


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق